في هذا اليوم (18 أكتوبر)، تمر الذكري السنوية الأولي لرحيل الأديب الكبير جمال الغيطاني.عام مضي وتركنا الغيطاني وحدنا. -1- في حفل تأبينه الذي أقيم بالمجلس الأعلي للثقافة فور رحيله، وصف الزميل الكبير ياسر رزق رئيس تحرير الأخبار ورئيس مجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم، رحيل الغيطاني بأنه خسارة غير محتملة.. عبر هذا العام تأكد لي أنه أبلغ وصف ينطبق علي هذا الرحيل المؤثر علي مستويات عدة. فالغيطاني واحد ممن أسهموا بقلمهم في مختلف فنون الكتابة، وكانت له مواقفه الواضحة وانحيازاته التي لم تتغير علي مر الزمن، فقد كان منحازا لفكرة المعرفة، من هنا جاءت كتاباته عن عبقرية الإنسان المصري وضرورة أن تعرف الأجيال بطولاته وانكساراته التي حولها لانتصارات، فبفضل قلمه، عرفنا ما يحدث علي أرض سيناء سواء في حرب أكتوبر، وقبلها في حرب الاستنزاف، فقد كان من المؤمنين بقيمة هذه الحرب في تمهيد الأرض لنصر أكتوبر، ولم يتردد أن يخوض معركة أدت به إلي ساحة القضاء دفاعا عن حرب الاستنزاف وقيمتها، وكان- أيضا- من أوائل من كتبوا، بعد حرب أكتوبر كتابا هاما ونادرا ولم يطبع سوي مرة واحدة، عنوانه " المصريون والحرب" وصدر في العام 1974، وتعيد طبعه في هذه الأيام هيئة الكتاب. في هذا الكتاب قدم الغيطاني رحلة موسوعية عن الإنسان المصري: " قد تعرض الإنسان المصري دوما لحملات التشويه، كان هناك إلهام خبيث لدي أعدائه يجعلهم يدركون الخطر الذي يمكن أن يحيق بهم ما لم يعملوا بكل ما في استطاعتهم لتشويه" لقد وقف الغيطاني بكل ما أؤتي من ثقافة وإطلاع ضد محاولات تشويه هذا الإنسان، من هنا سعي دوما إلي تقديم أفضل النماذج الموهوبة، فببصيرته وخبرته كان يراهن دائما علي الموهوبين في كل المجالات، فالغيطاني هو أول من كتب عن المهندس المعماري الكبير هاني عازر، صاحب انجاز مترو الانفاق في برلين، وقد احتلت صورته غلاف أخبار الأدجب ذات يوم، وعندما قابلته في يناير الماضي في معرض الكتاب، كان هذا العبقري المصري يحتفظ بجريدة أخبار الأدب، وبما كتبه عنه الغيطاني، الذي كان يعتبر الكتابة في حد ذاتها بمثابة الحياة، من هنا تعددت أدواره بما يخدم فكرة حياة الإنسان، فتميز بأنه صاحب مسارات متنوعة وثرية، وهو ما أشار إليه مرارا وتكرارا الدكتور نبيل عبد الفتاح، ففي مقاله في عدد هذا الأسبوع من أخبار الأدب أكد د. نبيل أن " مسارات حياة الغيطاني متعددة وعميقة.. فهو واحد من قلة من المبدعين المصريين، الحاضر في تاريخ الأدب والثقافة المصرية.. فلا يمكن الكتابة عن مسيرة الغيطاني والأحري مساراته دون التركيز علي دوره كأحد محركي الثقافة المصرية من خلال رعايته ودعمه للأجيال الجديدة من الروائيين والقصاصين الشباب ممن أرادوا طرائق جديدة وأساليب مبتكرة من السرد الذي حمل تجارب مغايرة لجيله والأجيال اللاحقة السبعينية والثمانينية، ودفع بعديد من وجوه جيل التسعينيات". -2- بالفعل.. فالغيطاني لا يمكن أن تحصره في دور واحد، فقبل دخوله المستشفي في مرضه الأخير بساعات، كنت أتحدث إليه تليفونيا، لأستأذنه في أن تحدثه زميلتي إسراء النمر عن مكان لفت نظري في الحسين، وستعد تحقيقيا صحفيا عنه، ورويت له أنني عندما سألت أحد القربين من هذا المكان، الذي أتخذ شكلا مسرحيا، قال لي من سيقول لك قصته كاملة جمال الغيطاني، ولم يكن يعلم أنني أحد تلامذته، وبالفعل روي لي الغيطاني أن هذا المكان إسمه الكلوب ويعد أول دار سينما يتم افتتاحها في القاهرة العام 1910، وكانت صالة تحت سطح الأرض بالفندق، وأن نجيب محفوظ شاهد فيه العديد من الأفلام فاستأذنته أن تتحدث إليه زميلتي إسراء النمر، لكن بعد ساعات من هذه المكالمة انتقل الغيطاني إلي مستشفي الجلاء العسكري، وعادت إسراء إلي كتاباته فاكتشفت أنه كتب عن هذا المكان مقالا في جريدة الأخبار بعنوان " الثقافة الغائبة" وسردت ما تضمنه هذا المقال في تحقيقها الذي نشر في أخبار الأدب بعنوان " سينما الكلوب.. محاولة لكسر العزلة". -3- احداث كثيرة وقعت بيننا وحوارات دارت أتمني أن أكتبها ذات يوم، فعلي مدي عمر الإنسان يرتبط بشخصيات يتأثر بهم، لكن قليلا من هؤلاء يؤثر في مستقبله بشكل مباشر، من الذين ينطبق عليهم هذا القول بالنسبة لي جمال الغيطاني، فبتوقيع منه تحولت من محرر تحت التمرين إلي صحفي ليس له مستقبل سوي في عالم الصحافة. علي مدي أكثر من 23 عاما ارتبطت بالغيطاني، فإما أن أراه يوميا أو نتحدث تليفونيا، من هنا كنت شاهدا علي أحداث كثيرة، بعضها أسرار ربطتنا أكثر، فعلي الرغم من أن إحدي سمات الغيطاني الأساسية أنه حكاء، من طراز فريد، إلا أن المقربين جدا منه، يعرفون أنه عكس ذلك، فهو " كتوم" إلي أبعد الدرجات، كتوم إلي حد أن قلبه في أحيان كثيرة يخونه، فكانت أكثر من عملية في هذا القلب. -4- عاصرت رحلة علاج الغيطاني التي بدأت في العام 1996 عندما سافر إلي أمريكا للعلاج في مستشفي كيلفيلاند، وهناك قرروا إجراء عملية جراحية دقيقة في قلبه، كنا نتحدث يوميا، وكان لديه إيمان عميق بأنه سيعود إلينا سالما، وهذا ما تحقق، لكننا كنا نعرف ان هناك قائمة من الممنوعات يجب عليه أن يلتزم بها بدقة، منها تقليل عدد ساعات عمله في أخبار الأدب، لكن ذلك لم يتحقق، إذ استمر بنفس الإيقاع، وكنا نحاول من وقت لآخر أن نهمس له، بأن عليه الراحة، كان يستقبل ذلك بابتسامة، ثم يدخل في موضوع طويل في العمل، وكنا نقابل حماسه بحماس، لكن في لحظات كان قلبه يخونه، مما يضطره إلي المكوث أياما بالمستشفي، كنا نظن أنه سيخرج منها ملتزما أكثر بتعليمات الأطباء، لكنه كان دائما ما يجهد ذهنه وقلبه، ولم يتوقف للحظة عن خوض أي معركة، تتماشي مع أفكاره وما يعتقده، واستمر الموقف علي هذا الحال، إصرار علي العمل، بكل ما تعنيه الكلمة، والتزام أقل بتعليمات الأطباء، حتي تعرض لأزمة صحية حرجة، انتقل علي إثرها إلي مستشفي كليفلاند بفارق زمني أكثر من 15 عاما من إجراء جراحته الولي هناك، وقبل سفره قرر أن ينيبني في اختصاصاته حتي عودته من هناك، فكنت أتحدث إليه يوميا، وحتي قبل ساعات من دخوله غرفة العمليات كان يتابع معي الموقف كقائد ميداني، لا يريد أن يترك أرضه للحظة. هذه العزيمة هي الدرس البالغ الأهمية في مسيرة الغيطاني، والعزيمة لديه ترتبط بالإنتاج، ففي سبعنيته التي احتفلنا بها قبل شهور قليلة من رحيله، كان يقول لي أن أجمل احتفالية للمثقف، أن يستطيع علي الدوام أن يكتب، فالغيطاني حتي قبل دخوله الغيبوبة بساعات كان يكتب، وكان لديه خطة في الكتابة، ظل وفيا لها حتي نهاية عمره. -5- من هنا يظل الغيطاني بالنسبة لي " الكبير" الذي علمنا أن نصبح " كبارا" في عالم لا يعترف سوي بذلك، هذه الجملة ليست لغزا، بل هي القيمة الكبري للغيطاني.. ففي الصحافة دائما بين من هم في سن متقارب، منافسات قد تضر بالمتنافسين معا وتبعدهما عن أي إجادة، لكنه غرس فينا أننا مجموعة من المهارات التي تتشكل أمامه.. فأحسن توظيف كل منا، فأصبحنا ننظر لبعضنا البعض علي أن كل واحد منا يكمل الآخر، ولا ينافسه. فهذا الكبير لم يقف يوما ضد أن يعطينا مساحات واسعة نظهر فيها هذه المهارات، لذا خضنا بجرأة ونحن في مقتبل حياتنا الصحفية معارك.. كان يحمينا، فلم يكن يعطي أذنه لمسئول لينكل بنا، ففي العام 1998 خضت معركة شرسة حول " منحة التفرغ" التي تعطيها وزارة الثقافة، فقد استطعت أن اخترق مناقشات اللجنة، وفوجئت بحملة شرسة ضدي من قبل أحد المسئولين في الوزارة في ذلك الوقت، وكذلك من الأديب الكبير الراحل فتحي غانم رئيس اللجنة، ومارس الجميع ضغوطا، لكي تتوقف الحملة، التي كشفت الفساد في طريقتها لاختيار المستحقين لهذه المنحة، فما كان من الغيطاني سوي أن يكتب علنا: " هكذا أصبحت أعمال لجنة التفرغ قضية علي كل المستويات الأخلاقية، الثقافية، الاجتماعية، بعد أن نجح الزميل طارق الطاهر بأدائه المهني الرائع أن يضع ما يدور في دهاليز اللجنة أمام الرأي العام، وحاول بعض أعضاء اللجنة استخدام الأساليب البالية في التعليق علي ما ينشر". طوال رئاسته للتحرير لم يستجب " للتقاليد البالية" سواء التي كانت تستهدفني أو تستهدف زملاء لي، فعلي سبيل المثال أتذكر أن أحد رؤساء هيئة قصور الثقافة، كان لا يعجبه كتاباتي عن الهيئة، فكان لا يمل عن الشكوي الدائمة للغيطاني، حتي جمعنا لقاء ثلاثي في إحدي المناسبات، ففوجئت به يقول له: " علي فكرة طارق رئيس تحرير أخبار الأدب بعد عشر سنوات" وكنت وقتها مازلت محررا تحت التمرين، لكن الرسالة وصلت. هذا الاستطراد يبين كيف أدار الغيطاني الجريدة طوال سنوات رئاسته، التي اقتربت من ال18 عاما، لم يبخل عليها بوقته وصحته، أجل الكثير من مشروعاته الإبداعية من أجل أن تستمر قوية، وتحقق له ما أراد لاسيما أنه من اللحظة الأولي وضع له " خريطة طريق" نسير عليها إلي الآن، انحياز واضح للمواهب، فمن مصطلحاته التي صكها " تقليب التربة" والهدف من هذا التقليب كشف الموهوبين من كل انحاء المحروسة والمراهنة عليهم، فتجاورت أسماء إبداعية من مختلف الأجيال والاتجاهات علي صفحات الجريدة، وقد احتل الكثير من هذه الأسماء مكانها اللائق حاليا في حياتنا الأدبية والثقافية، كما سعينا علي مدي السنوات الماضية في توسيع مفهوم الأدب والثقافة، ليشمل كل قضايا المجتمع، فلم ننعزل لحظة عن الهموم الكبري، من هنا جاء انحيازنا لأهالينا في قرية المريس بالأقصر، حينما كان هناك مشروع لنزع ملكية أراضيهم التي عاشوا فيها هم وأجدادهم، لتحويلها لمشروع استثماري، تصدينا لذلك حتي وأدنا هذا المشروع، وعندما غرق أهالينا في العبارة، لم نصمت ونقل نحن جريدة أدبية، بل تصدينا " للفساد ". -6- رغم شهرته التي تعدت حدود وطنه إلي أوطان كثيرة، ولغات متعددة، إلا أنه ظل لآخر لحظة في حياته متواضعا إلي أبعد درجات التواضع، فالغيطاني من الأدباء القليلين الذين ترجمت أعمالهم إلي لغات شتي، ونال جوائز كثيرة من داخل وخارج وطنه، آخرها جائزة النيل في الآداب، وقبلها حصل كتابه " التجليات" علي جائزة كبري من فرنسا، وهي جائزة تذهب للكاتب والمترجم معا، وقد وصفته اني مورفان المسئولة عن النشر الأجنبي في دار " سوي" أن الغيطاني هو أكبر كاتب في مصر وواحد من أكبر مفكري العالم العربي. -7- الآن وأنا أتأمل مسيرة الغيطاني التي كنت شاهدا علي ربع القرن الأخير منها، أستطيع القول إن الغيطاني واحد من أخلص أبناء هذا الوطن، صاحب عالم خاص في كل شيء، ليس فقط في الكتابة الصحفية أو الإبداعية؛ بل في نظام حياته وفي علاقته بالناس وعلاقته بهذا الوطن، له دائما ثوابته التي لا يحيد عنها حتي لو خاض في سبيل ذلك المعارك، كما أنه أيضا واحد من حماة ذاكرة هذا الوطن، مكتبته عامرة بآلاف من الكتب التي رغم حبه الشديد وولعه بها، إلا أنه في لحظات يفرط فيها مؤقتا من أجل أن يراخا مطبوعة ومنتشرة علي نطاق واسع، فليس سرا أن معظم الكتب التي صدرت عن هيئة الكتاب، في إطار الاحتفال بقناة السويس هي من مكتبة الغيطاني، وكذلك كل الكتب التي صدرت في سلسلة الجيش من مكتبته العامرة بمؤلفات نادرة، فقد كان دائما حريصا علي الذاكرة الوطنية ومدافع عنها، لأنه جزء منها؛ بل هو ضميرها المعبر عنها.. وهذا الضمير لن يرحل أبدا.