اللقاء الثلاثي بين زعماء مصر واليونان وقبرص، والعلاقات المتنامية بين الدول الثلاث، تعيدني إلي ذكريات سنوات بعيدة كانت صعبة ورائعة. وكنا نواجه صعوبتها بايمان عميق بالانتصار، ونستمتع بروعتها بحب لا ينتهي للحياة والحرية. كان من نعم الله عليّ أن ولدت ونشأت في عروس المدن المصرية »بورسعيد». كانت المدينة الجميلة تقدم نموذجا بديعا للتعايش الانساني في مدينة »كوزموبوليتانية» كما يقال، حيث تتعدد الثقافات وتنفتح المدينة علي العالم كله. لكنها »وهذه هي روعة التفرد» لا تنسي أصولها المصرية العربية، ولا تغيب عن ذاكرتها قضاياها الوطنية خاصة أن رموز المواجهة المحتومة كانت رابضة علي أرض المدينة الجميلة تذكرها »حتي مثل هذه الأيام قبل ستين سنة» أن هناك احتلالا بريطانيا عمره يزيد علي سبعين سنة مازال يتمسك بأن يربض علي صدر مصر، ومازالت هناك »قناة سويس» حفرت بدماء المصريين ثم نهبت منهم!! في ظل هذه الظروف كان اليونانيون والقبارصة هم الأقرب للمصريين والأقدر علي فهم مشاعرهم، فقد كانوا يخوضون هم أيضا معركة من أجل تحرير قبرص من الاحتلال البريطاني. ولم يكونوا محل ثقة لدي المسئولين في شركة القناة أو المتحكمين في القاعدة البريطانية. ولهذا انخرطوا في الحياة العامة وافتتحوا محلات البقالة والمقاهي الجميلة، وأقاموا علاقات صداقة مع الجميع. وعندما خرج جنود الاحتلال الانجليزي من مصر في يونيه 1956 خرج اليونانيون ليرقصوا في الشوارع مع المصريين احتفالا وابتهاجا، وانتظارا ليوم يتحقق فيه نفس الشيء في قبرص التي كانوا يأملون أن تعود لتكون جزءا من اليونان بعد أن تتحرر من الاحتلال البريطاني. وعندما جاءت اللحظة التي غيرت وجه التاريخ بقرار تأمين قناة السويس. لم يكن اليونانيون »المصاروة أو المصريون» كما يحبوا أن يسموا أنفسهم حتي الآن» جزءا من الفرحة فقط، بل كانوا أيضا -وفي أحيان كثيرة- شركاء في المعركة معنا علي الأرض كما كانت حكومتهم في اثينا شريكا لنا في معارك السياسة.. تؤيد حقنا في استرداد القناة وتقف معنا ضد العدوان. مشكلة قبرصية أخرت التأميم! وبعد سنوات طويلة كشف لنا كاتبنا الكبير الراحل محمد حسنين هيكل أن اعلان قرار تأميم القناة تأخر أياما بسبب مشكلة »قبرصية»!! كان عبدالناصر سيعلن القرار في خطابه المقرر في 23 يوليو في ذكري الثورة. لكن كان ينتظر رسالة من قبرص لم تصل، فاضطر لتأجيل الاعلان حتي خطاب 26 يوليو في الاسكندرية. كانت حسابات عبدالناصر أن أي احتمال للرد العسكري علي قرار التأميم سيأتي من بريطانيا، وأن النقطة الوحيدة المهيأة للانطلاق منها بالنسبة للبريطانيين هي قاعدتهم في قبرص. وهنا تظهر قيمة ما كانت تقدمه مصر لكل حركات التحرر في هذا الوقت من دعم وتأييد. وهكذا كانت الثورة القبرصية وقواتها المسلحة الممثلة في حركة »أيوكا» تقدر تماما ما فعلته مصر. وكان رسول يذهب من عبدالناصر إلي الاسقف مكاريوس الزعيم الوطني والقبرصي، وإلي الجنرال »بريناس» القائد العسكري للمقاومة القبرصية. وكان المطلوب تقريرا كاملا عن وضع القوات البريطانية، وهل تستطيع التحرك نحو مصر لترد علي قرار التأميم. وانتشر رجال المقاومة، وجاءوا بالتقرير المفصل الذي أكد عدم استعداد بريطانيا لهذه الخطوة. وكان الاعلان عن قرار تأميم قناة السويس في 26 يوليو من الاسكندرية. بعدها بأسابيع كان الاختبار الثاني الذي يستحق أن نتوقف عنده. حين اتفق رئيس الوزراء الفرنسي »جي موليه» مع رئيس الوزراء البريطاني »ايدن» علي التصعيد ضد مصر. وكانت الخطوة الأولي والأساسية في هذا التصعيد هي سحب المرشدين الأجانب »وكانوا يمثلون أغلبية المرشدين» لكي يتعطل سير الملاحة في قناة السويس، ويكون ذلك مبررا للتدخل العسكري لاستعادة القناة واسقاط الحكم في مصر. حددوا لذلك يوم 15 سبتمبر من هذا العام المجيد »1956» وبالفعل صدرت الأوامر، وانسحب الكثير من المرشدين الأجانب، لكن المؤامرة فشلت والملاحة لم تتوقف. وهنا نقف أمام حقيقة أن المرشدين اليونانيين العاملين في قناة السويس رفضوا الانسحاب. وأن أعدادا اخري من المرشدين كان قد تم الاتفاق معها من اليونان، ومن عدد من الدول الصديقة، بالاضافة إلي الأعداد التي كان قد تم تدريبها من ضباط البحرية المصريين، والذين عوضوا غياب المنسحبين واسقطوا المؤامرة. ريسنا قال.. مفيش محال وفي ذكري هذا اليوم بالذات، كان يتم الاحتفال بقدرة المصريين علي إدارة هذا المرفق الهام في أصعب الظروف. وفي أول احتفال كانت كلمات شاعرنا الجميل الراحل صلاح جاهين هي النجم. أخذ الفنان محمود الشريف مقطعين من ديوانه الذي سجل فيه وقائع حرب السويس وحولهما إلي أغنيتين رائعتين، غني محمد عبدالمطلب الأولي وهي »يا سايق الغليون». وغنت المطربة الرقيقة أحلام الأغنية الثانية وهي »يا حمام البر سقف». ولم يكتف جاهين بذلك بل كتب خصيصا لأم كلثوم أنشودتها التي لا تنسي، »محلاك يا مصري وانت ع الدفة» التي لحنها محمد الموجي بكل اقتدار، لتغني الملايين مع سيدة الغناء: ريسنا قال.. مفيش محال.. راح الدخيل وابن البلد كفي ولا أعرف لماذا لم يتم الاحتفال بالمناسبة هذا العام. لكن -علي كل حال- مازالت أمامنا الفرصة لنحتفي كما يجب بالحدث الأساسي وهو مرور 60 عاما علي تأميم قناة السويس، وعلي انتصارنا العظيم علي العدوان الثلاثي. ولعل ما لمسناه من اهتمام ونحن نحتفل بمرور 43 عاما علي انتصار أكتوبر، يؤكد للجميع أن الشعب -بكل أطيافه- يريد استعادة ذاكرته الوطنية بعيدا عن التزييف، ويريد أن يحتفي بانتصاراته وأن يؤكد قدرته علي أن يحقق المستحيل، وأن يتحمل كل شيء في سبيل أن يحافظ علي الأرض والعرض والكرامة، وأن يبني المستقبل الذي يريده هو بارادته الحرة ووحدته التي لا تقهر. قبل عشر سنوات كان العالم كله يحيي مناسبة مرور خمسين عاما علي حرب السويس التي غيرت وجه التاريخ، وفتحت أبواب التحرر أمام الشعوب العربية وشعوب العالم الثالث كله، وأسقطت الاستعمار القديم إلي الأبد، واستعادت حق الشعوب في امتلاك ثرواتها بعد أن استعادت قناة السويس لمصر. كانت مراكز البحوث في العالم تجري الدراسات. وكان الخبراء يستخرجون الدروس. وكانت الشعوب تذكر بكل خير تضحيات مصر.. بينما كنا نتجاهل المناسبة أو نكتفي بالدعوة الغبية لاعادة تمثال ديلسبس لمكانه في اهانة واضحة لكل معني وطني!! بورسعيد.. وذاكرة الوطن بعد شهرين.. وفي 23 ديسمبر يأتي يوم النصر علي العدوان الثلاثي قبل ستين عاماً بالتمام والكمال. هل يمكن أن نحتفل به كما ينبغي لشعب يحترم تاريخه؟! هل يمكن أن تكون هذه مناسبة لعودة الذاكرة الوطنية التي لم تتوقف محاولات تغييبها علي مر السنين؟! هل يمكن أن تتوجه مصر كلها لتحتفل بمدينة اسمها »بورسعيد» افتدت الوطن، وقدمت آلاف الشهداء، لكي لا تمر دبابات الأعداء إلي قلب الوطن أو تجهض قرار استعادة الكرامة مع استعادة قناة السويس؟ وهل يمكن أن ندعو قادة العالم العربي لاحتفال محدود بالمناسبة، يرون فيه كيف ساهمت أنظمة الحكم في عالمنا العربي في قطع الطريق علي استكمال تحقيق الحلم الذي بدأ من »بورسعيد» التي كانت أغنية في فم كل عربي، وعنوانا علي الطريق التي استردت فيه شعوبنا العربية حريتها، واستردت دولنا العربية ثرواتها. وكان تأميم القناة هو المقدمة الطبيعية لاسترداد البترول العربي. كما كانت أكتوبر -بعد ذلك- هي الطريق لتصحيح العلاقة مع احتكارات البترول لصالح الدول العربية وشعوبها. وأرجو ألا يربط أحد بين هذا الحديث وبين ما يجري الآن مع أشقاء عرب أعزاء يعرفون جيدا معني ما أقول. ولعلهم يدركونه أكثر لو جاءوا ليشاركونا في احتفال لابد أن يقام في العيد الستين لتأمين القناة وانتصار مصر الذي فتح أبوابا للحرية والعدالة واسترداد الحقوق.. ما كانت تفتح لولا ما فعلته مصر بقيادة عبدالناصر وتضحيات شعبها ومؤازرة الشعوب العربية التي كان بعض حكامها يسيرون في طريق آخر، نرجو ألا يعود أحد للسير فيه!! قادرون علي التضحية.. والانتصار أحد أبواب استعادة التفاؤل والثقة هو أن ننهي سنوات الخصام مع ذاكرتنا الوطنية. وأن نستعيد أيام النصر لنستكملها. وأن نستوعب دروس الماضي فندرك أن معركتنا كانت علي الدوام هي استقلال الوطن وامتلاك القرار الحر. وأن يكون حاضرا أمامنا علي الدوام أننا قادرون علي قهر كل الصعاب وتحدي كل العقبات.. حين تتضح الرؤية، ونعرف الطريق ونتوحد جميعا وراء هدف واحد، ونؤمن جميعا أن تضحياتنا لا تذهب هباء، ولا تتعرض للسطو من الذين يتربصون بمصر حتي لا تنهض، أو الذين يعرفون أن مصر القوية الناهضة هي حائط الصد الحقيقي لكل أعداء الأمة العربية، وهي صمام الأمان ضد إرهاب منحط، وضد حصار خارجي ومشاكل داخلية ومحاولات لتصدير اليأس إلي نفوس الملايين في وطن كان -في قلب الأزمات ولهيب الحروب- لا يفقد الأمل ويعرف كيف يدفع ثمن الانتصار. احياء الذاكرة الوطنية سيقول لأجيال غابت عنها الحقائق إننا قبل ستين عاماً لم نكن أقوي من امبراطوريتين تسيطران علي نصف العالم، ومع ذلك كتبنا لاستعمارهما وسطوتهما شهادة الوفاة. واننا حين أممنا القناة لم نكن إلا الحق والإرادة ووحدة الشعب.. فكان الانتصار. واننا حين قلنا إننا سنبني السد العالي بأموالنا وعرق أبنائنا كنا نعرف أن الطريق صعب ومع ذلك صممنا عليه، وبنينا -مع السد العظيم- مئات القلاع الصناعية وقدمنا نموذجا في التنمية وفي الاستقلال الوطني مازال أعداؤنا -حتي اليوم- يخافون من تكراره. واحياء الذاكرة الوطنية سيقول لأبنائنا إن ارادتنا الحرة ووحدتنا الوطنية وما انجزناه في سنوات البناء هو الذي جعلنا نصمد أمام ضربة 67، وهو الذي مكننا من الثأر والانتصار في 1973.. ولو كرهت مناهج المدارس الأمريكية التي تكتب التاريخ بأقلام جنرالات إسرائيل المهزومين!! واحياء الذاكرة الوطنية سيقول لأبنائنا انه -مهما كانت الصعاب التي تواجهنا- فإننا الآن أقوي علي المواجهة -وعلي تحقيق الانتصار- وعلي حماية الإرادة الوطنية المستقلة التي قدمنا من أجلها أغلي التضحيات.