حين تصافح فاروق شوشة لابد أن تنظر إلي أعلي فوجهه تحت سقف الأمكنة بقليل. وحين يغادر الماسبيرو يطاول أدواره العالية، ويتقاسم مع المبني الناصري الباذخ انعكاس الظل علي النيل. يصطف فاروق شوشة مع معالم مصر الخالدة »الأهرامات وقباب عمرو بن العاص ومآذن الأزهر وابن طولون وباب زويلة وقلعة محمد علي». جاء من دمياط بلد زكي نجيب محمود وبنت الشاطئ ورياض السنباطي وشوقي ضيف ورأفت الهجان ومئات الجنرالات والساسة والشعراء. واختار فاروق التوجه إلي صوت العرب الذي يشتعل يومها بخطابات عبدالناصر، ويذوب رقة مع تباريح وشجن أم كلثوم، فكان فاروق الحنجرة الثالثة بين الاشتعال لتثوير الجماهير، والرقة لتذويب سكاري الحب. ولم يكن وحده في سفره من دمياط إلي القاهرة بل صحبه علي نفس القطار سيبويه وابن منظور والخليل بن أحمد والمرتضي الزبيدي والفيروزآبادي، ودخلوا معه الماسبيرو، وشاركوه تقديم »لغتنا الجميلة». حزم أمره منذ البداية علي عدم توظيف صوته في المجهود الحربي العربي فاختار النضال ضد أعداء لغة العرب، معتبرا تحصينات النحو والصرف أهم من استحكامات بارليف، واختراق بادية اللغة أخطر من ثغرة »الدفرسوار». وطالبوه ان يرفد خطابات عبد الناصر، بتقديم برامج تخاطب الأذن العربية عن خبايا بن جوريون وبيجين ومائير وسادة البيت الابيض وحبائل الاستعمار، وينور الذهنية العربية بدول عدم الانحياز، ويتغني بأمجاد نهرو وتيتو وسوكارنو. إلا أن شوشة ألقي كل ذلك وراء ظهره فانحاز إلي تلؤلؤ قصائد المتنبي في بلاط سيف الدولة، وحماقات كافور الإخشيدي في التلون بأصباغ المتنبي. وفضل الحديث عن الملك الضليل، وكبرياء والدة عمرو بن كلثوم، وزنزانة صاحب أراك عصيَّ الدمع. وكان فاروق شوشة يري أن القلم الذي كتب به شوقي »ريم علي القاع» و»ولد الهدي» و»سلام من صبا بردي» و»خدعوها بقولهم حسناء» أهم من القلم الذي وقع به عبدالناصر تأميم القنال، أو كتب به استقالة التنحي. وكان منزل شوقي في كرمة ابن هانئ أهم عند فاروق شوشة من بيت عبدالناصر في المنشية، وأرفف دار الكتب أهم من مقتنيات الاسرة الملكية في عابدين. وجبل حومل في معلقة امرئ القيس الأهم لديه من المقطم. قدم لصوت العرب برامجه اللغوية، وتغني بقصائد الحب عبر مسيرة الشعرية العربية. وترنم في ميكروفون صوت العرب بقصائده المعطرة بخشب دمياط وبساتين الجوافة وطمي النيل. التقيت العملاق فاروق شوشة عدة مرات في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وكان آخرها في كراون بلازا حيث جاء للإشراف علي ورشة إعلامية، وقد خرجنا معا إلي مواقف السيارات، وكنت اصارع صوارم الكلمات لموضوع عن الورشة لأنشره بجريدة عمان، بينما أوتار حنجرته تدندن بميمية المتنبي »واحر قلباه ممن قلبه شبم» فيرسلها مع موج البحر تحتنا وحفيف ورق الأشجار في المكان. وحين ودعته كان لا بد أن أنظر إلي أعلي لأراه، فكان بطول كراون بلازا في مسقط، كما هو دوما بطول الماسبيرو في مصر المحروسة. ولعل الصدفة الأجمل من المواعيد أن يأفل قمر الشعر في نفس اليوم الذي أفل فيه شوقي وهو الرابع عشر من أكتوبر حيث أغمض فاروق شوشة عينيه علي أشجار خشب دمياط، تاركا الماسبيرو وحيدا دون هامة تطاوله، ولا هامة تلقي بظلها معه في النيل، فيا مصر هل غادر الشعراء؟