إقبال ملحوظ على لجان الاقتراع بالسويس في اليوم الثاني لانتخابات الإعادة    التعليم العالي: انضمام 11 فرعا جديدا إلى قائمة الجامعات الأجنبية بمصر    سد النهضة وتسوية الأزمة السودانية تتصدران قمة السيسي والبرهان اليوم بالقاهرة    اسعار الفاكهه اليوم الخميس 18ديسمبر 2025 فى أسواق المنيا    وزيرة التنمية المحلية ومحافظ قنا يفتتحان محطة مياه الشرب بقرية حجازة بحري    تخصيص قطع أراضي لإقامة مدارس ومباني تعليمية في 6 محافظات    أمين مجلس الجامعات الأجنبية تتفقد فرع جامعة جزيرة الأمير إدوارد    وزير الاتصالات يفتتح مقر مركز مراقبة الطيف الترددي بمحافظة الجيزة    استهداف سيارة عبر طائرة مسيّرة في مرجعيون بجنوب لبنان    الزراعة: ضبط 7.4 طن أسمدة مهربة للسوق السوداء في حملات موسعة بالأقصر وكفر الشيخ    إخماد حريق داخل مزرعة دواجن بالفيوم.. وتحرير محضر بالواقعة    تجديد حبس 4 سيدات بتهمة ممارسة الأعمال المنافية للآداب في التجمع    إصابة 4 أشخاص والبحث عن مفقودين في انهيار عقار من 5 طوابق بالمنيا    مصرع موظف بشركة السكر وإصابة 4 آخرين في مشاجرة بنجع حمادي    صحة الدقهلية نجاح فريق طبي بمستشفى السنبلاوين فى إعادة بناء وجه وفكين لمصاب    صحة المنيا: تقديم أكثر من 136 ألف خدمة صحية وإجراء 996 عملية جراحية خلال نوفمبر الماضي    "متسخنوش الملوخية والأرز".. نصائح وتحذيرات مهمة للتعامل مع الأطعمة    محافظ كفر الشيخ يعلن فتح اللجان الانتخابية في ثانٍ أيام جولة الإعادة بانتخابات النواب 2025    رئيس الوزراء يصدر قرارًا بإسقاط الجنسية المصرية عن 3 أشخاص    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الخميس 18 ديسمبر 2025    مصدر بالصحة: الدفع ب10 سيارات إسعاف في حادث مروري بدائري المنيب صباح اليوم    بعد تداول منشور حزبي.. ضبط متطوعين خارج اللجان بزفتى بعد ادعاءات بتوجيه الناخبين    وزير العمل يلتقي رئيس اتحاد الحِرَف والمنشآت الصغيرة الإيطالي لتعزيز التعاون في التدريب المهني وتشغيل العمالة المصرية    الائتلاف المصري لحقوق الإنسان: انطلاق اليوم الحاسم لجولة الإعادة وسط تصويت محسوب واستقرار أمني    أستاذ علوم سياسية: التوسع الاستيطاني يفرغ عملية السلام من مضمونها    السفير السعودي: شراكة مؤسسية وتعاون دبلوماسي بين المملكة ومصر في خدمة اللغة العربية    عام استثنائي من النجاحات الإنتخابية الدولية للدبلوماسية المصرية    وزير الثقافة يبحث تعزيز التعاون الثقافي مع هيئة متاحف قطر ويشارك في احتفالات اليوم الوطني    سنوات من المعاناة والغياب عن الأضواء في حياة نيفين مندور قبل وفاتها المأساوية    أمريكا توافق على مبيعات أسلحة بقيمة 11.1 مليار دولار لتايوان    مركز التنمية الشبابية يستعد للبطولة التنشطية لمشروع كابيتانو مصر    الكوكي: الأهلي المرشح الأبرز للدوري وبيراميدز أقرب منافسيه    انطلاق تصويت المصريين في اليوم الثاني لجولة الإعادة للمرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب    وزير الصحة: الذكاء الاصطناعى داعم لأطباء الأشعة وليس بديلًا عنهم    من تخفيض الفائدة إلى مكافأة المحارب.. أبرز وعود ترامب لعام 2026    سلطة ساندوتش طعمية تشعل مشاجرة تنتهي بجريمة قتل في مطعم بالمنصورة    الأرصاد تحذر من شبورة كثيفة على الطرق.. اعرف تفاصيل حالة الطقس اليوم    سعر جرام الذهب صباح اليوم الخميس، عيار 21 وصل لهذا المستوى    عاجل- السيسي يستقبل الفريق أول عبد الفتاح البرهان لبحث تسوية الأزمة السودانية وتعزيز التعاون الثنائي    مودرن سبورت يتحدى البنك الأهلي في كأس عاصمة مصر    انخفاض ملحوظ، درجات الحرارة اليوم الخميس في مصر    راشد الماجد يشعل حفله في مصر ويهدي أغنية ل ملك السعودية: "عاش سلمان" (فيديو)    الاحتلال الإسرائيلي يعتقل شابين خلال اقتحامه بلدتي عنبتا وكفر اللبد شرق طولكرم    إدارة ترامب تسخر من بايدن بلوحة تذكارية على جدار البيت الأبيض    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 18ديسمبر 2025 فى المنيا.....اعرف صلاتك    خالد أبو بكر يدعو الجماهير والأندية لدعم الزمالك.. جزء من تاريخ مصر    النواب الأمريكي يرفض مشروع قرار لتقييد صلاحيات ترامب    غياب الزعيم.. نجوم الفن في عزاء شقيقة عادل إمام| صور    سوليما تطرح «بلاش طيبة» بالتعاون مع فريق عمل أغنية «بابا» ل عمرو دياب    يلا شووت.. المغرب والأردن في نهائي كأس العرب 2025: صراع تكتيكي على اللقب بين "أسود الأطلس" و"النشامى"    كأس العرب، موعد النهائي التاريخي بين الأردن والمغرب    أبناء قراء القرآن يتحفظون على تجسيد سيرة الآباء والأجداد دراميًا    اقتحام الدول ليس حقًا.. أستاذ بالأزهر يطلق تحذيرًا للشباب من الهجرة غير الشرعية    ما حكم حلاقة القزع ولماذا ينهى عنها الشرع؟.. أمين الفتوى يجيب بقناة الناس    18 فبراير 2026 أول أيام شهر رمضان فلكيًا    أسوان تكرم 41 سيدة من حافظات القرآن الكريم ضمن حلقات الشيخ شعيب أبو سلامة    ريال مدريد يبدأ رحلة كأس ملك إسبانيا بمواجهة تالافيرا في دور ال32    باريس سان جيرمان وفلامنجو.. نهائي كأس الإنتركونتيننتال 2025 على صفيح ساخن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ضيافة «الخضر»
يوميات الأخبار

فجأة اعتدل في مجلسه، وقال: وعليكم السلام ورحمة الله يا أبا العباس، والتفتُّ باحثا عن أبي العباس هذا فلم أر أحدا
عندما كنتُ طفلا جلستُ مرة مع أبي - رحمه الله - بقريتنا العُوَيْضات وكان يحدثني عن الخضر، وفجأة اعتدل في مجلسه، وقال: وعليكم السلام ورحمة الله يا أبا العباس، والتفتُّ باحثا عن أبي العباس هذا فلم أر أحدا، فسألته، فابتسم قائلا: لا يُذكر الخضر يا ولدي في مجلس إلا وكان مارّا به.
منذ ذلك الحين وأنا أبحث عن الخضر في البلدان التي طُفت بها والكتب والمخطوطات التي قرأتها، والأعجب أنه كان يفاجئني هذا الحضور المدهش، ففي إحدي زياراتي لمدينة حمص بسوريا التي آمل أن تنتهي مأساتها نزلتُ في حي الخضر، وقالت لي مديرة الفندق: مرحبا بك في ضيافة الخضر.وعندما زرتُ مدينة باكو عاصمة أذربيجان وجدت تمثال مارجرجس الخضر، بل أعجب من هذا أني زرت مسجدا ببيروت يُدعي مسجد الخضر وبظهره كنيسة مارجرجس، هذه الشخصية التي تلامست مع الخضر، وأدركتُ أنه لكلِّ شعبٍ خضر، والخضر هو العبد الصالح الذي ذهب إليه موسي عليه السلام كي يعلمه، لكنه انتقل عبر القارات والأديان والمذاهب، ولم أر شخصية استطاعت أن تتجاوز العصور مرتدية رداء الخلود كالخضر الذي اختلط فيه الديني المقدَّس بالأسطوري الشعبي مما أدي إلي ديمومة حضور هذه الشخصية في التراث الديني والأدبي والنقدي وفي الفُلكلور الإنساني العالمي؛ وقد أفرد المفسرون صفحات للخضر، ولم يقتصر وجود الخضر عند المسلمين فقط بل تجاوز ذلك لنجده في التراث اليهودي؛ والتراث المسيحي؛ وكأنه إرث يرغب الجميع في ملكيته؛ كما أن حضوره لم يكن محدوداً بكتب التراث بل تعايشت هذه الشخصية مع العصورلتتجاوزها وتظل حية لدي بعض البيئات والأمم حتي يومنا هذا.
كيف نفك غموض هذه الشخصية في تشابهها مع جلجامش وبحثه عن شجرة الخلود؟ وفي تماسها مع تموز في عودته المتجددة ؟ وما أسباب خروج المفسرين عن الأحاديث النبوية التي تفسر النص القرآني إلي الانشغال بأمور حيال الخضر تعني بتخيل الحكايا بدءاً بمولده ونشأته وأحداث صباه وزواجه ولقائه بإلياس وذي القرنين وشربه من عين الخلود في أحداث تكوّن أول رواية عربية متكاملة.
لقد وظف التراث الشفهي الخضر، وتمثله وجسَّده وتوسَّل به ورآه قائداً؛ وفي معظم الملاحم والسِّيَر الشعبية يطلّ الخضر مُنْجداً أبطالها في لحظات الضيق والمخاطر كما نري في السيرة الهلالية.
لقد طغي الخضر في الشعر والنثر العربي والعالمي، وقد رآه إخوان الصفا في رسائلهم »عبدالله مولانا الخضر»‬وأنه »‬عليه السلام صاحب سر غَيب وكتمان»، وفي ألف ليلة وليلة حضور قوي للخضر، كما رأيناه في الروايات والقصص القصيرة.
ولم تقف الآداب العالمية بمعزل عن الخضر فوظفه الأدباء في شعرهم ونثرهم، ومن ذلك عدد من القصائد في الآداب الألمانية والفارسية والتركية وفي النقد أيضاً مما يعد مادة خصبة في الأدب المقارن.
هنالك سر ما منح هذه الشخصية - التي تلامس فيها الواقعي التاريخي بالمتخيل - البقاء والتجدد في الذاكرة الإنسانية؟ وإلا فكيف لنا أن نفسر انشغال المفسرين والمفكرين وعلماء الكلام والشعراء والكتاب والفلاسفة والفنانين بالخضر؟ كما يصلح الخضر أن يؤسس موضوعه نظرية التبادل التراثي وتشابه البناء الجدلي في القص مما يعد مدخلاً لتبادل الحضارات وتداخلها تراثيا ومعرفيا ومستقبلياً أيضا.
الخضر وحضوره العالمي
يعد الخضر - وهذا لقبه - وكنيته أبوالعباس من الشخصيات التي لها حضورها القوي في التراث الديني والأدبي والنقدي وفي الفُلكلور الإنساني ولم يكن هذا مقصوراً علي التراث العربي بل تخطاه نحو آداب الشعوب الإسلامية جمعاء ؛ في التراث الإندونيسي؛ وفي الفارسي؛ وفي التركي بل في التراث الآسيوي نلمح Al-Khizr أيضا؛ فعند مسلمي الهند وغير المسلمين أيضا »‬صار مقدساً عند صيادي الهند، فغدا مرشد البحارة ودليلهم، ومايزال يُذكر اسمه حتي الآن من قبل البحارة في كل مرة يبحرون بقواربهم في اتجاه الشرق الأوسط والهند الشمالي» فقد أضحي الخضر مقدسا لدي البحارة في الهند وأضحي »‬راعي الملاحة في الهند حيث يقال هناك إن »‬رجا كيدار» هو الحارس ضد أخطار الملاحة» أي صار رمزا للحماية لدي الهنود وغيرهم في أصقاع المعمورة ؛ كما يُسَمَّي في سريلانكا Kilur، أو Kalir أو Halir، كيلُر، كالير أو كالير، أي كلّ المشتقّات من خضر العربيّ وأيضًا Hayatun Nabi »‬النبي الحي» لقد أضحي »‬الخضر مثل الهواء. عندما يفكّر أحد فيه، فإنه هناك» وفي التراث الفارسي نجد الخضر أو خِيسير متواترا، ولم يقتصر وجود الخضر عند المسلمين فقط بل تجاوزهم إلي الملل الأخري لنجده في التراث اليهودي الذي يراه الحَبر يهوشع أو يوشع او إيليا؛ والتراث المسيحي الذي يسميه القديس جورج أو جورجيوس أو ماري جرجس؛ وكأنه إرث يرغب الجميع في ملكيته ؛ كما أن حضوره لم يكن محدوداً بكتب التراث بل تعايشت هذه الشخصية مع العصور لتتجاوزها وتظل حية لدي بعض البيئات والأمم حتي يومنا هذا، فسيارات الإسعاف في تركيا تسمي خزر، وما مزارات الخضر المنتشرة في سوريا ولبنان وتركيا وغيرها من البلدان إلا صورة من حضور الخضر في المعتقدات الدينية ومحاولة تجسيده في المزارات والإبداع. ولقد أقمت أسبوعا بحمص في حي الخضر وعلي مقربة من مقامه. وفي طريق العين/دبي توجد مدينة الخضر التي ربما تكون منسوبة إليه.
فالباحث عن عين الحياة، والشارب منها يمُنح الخلود، ويتحول إلي نقطة التقاء بين الأديان مع اختلاف حول اسمه وعصوره؛ وشبه إجماع علي مواصفاته وأدواره؛ وهذا ما جعل توظيفه في الأدب والنقد معينا لا ينضب ورؤي إبداعية لاتُحد، قد يتغير اسمه وشكله وأوصافه تبعا للبيئات والأزمنة، لكن يظل نقطة إبداع ومحور خيال لم يجد من النقدة من يحاول فكّ طلاسمه في إطار الإبداع والنقد.
فالتراث الشفهي يوظّف الخضر، ويتمثله ويجسِّده ويتوسَّل به ويراه قائداً للأولياء، يقلدهم الولاية، يجتمع بهم ؛ وفي معظم الملاحم والسِّيَر الشعبية يطل الخضر مُنْجداً أبطالها في لحظات الضيق والمخاطر.
وقد توقف النقد الأدبي أمام الخضر، وحاول النقاد أن يسبروا أغوار هذه الشخصية، وأن ينزعوا عنها ما أحاط بها من غموض وتداخل، فالخضر في التراث الأدبي تحوَّل إلي معين لقصائد الشعراء يوظفونه في رؤاهم، فغدا رمز الخلود، وتلامست شخصيات أخري مع الخضر في التراث النقدي، فجلجامش الباحث عن الخلود يتحول إلي أسطورة تنزاح رؤاها في التراث الإنساني لتتجاوز حدود الشخصية لمناقشة قضايا الإنسان عبر عصور الزمن المختلفة؛ فيتماهي جلجامش في شخصية الخضر، ويتشابه تموز مع الخضر، وفي عودة أوزيريس الذي »‬ساعده ملك الخلود» وجعله Thot ينتصر علي أعدائه كما ورد في كتاب الموتي، فتجمع زوجه إيزيس أشلاء جسده الممزق فيعود حياًّ مرة أخري؛ ونشاهد التشابه بين الخضر و»نفركاه بتاح» ابن الفرعون الباحث عن الكتاب السحري الذي كتبه الإله توت »‬ومن يتمكن من الحصول علي هذا الكتاب ويقرأ أول حكمة فيه يستطيع أن يسلط سحره علي السماء والأرض... وأما من يتمكن من قراءة حكمته الثانية فإنه يستطيع أن يعود إلي الحياة الدنيا بعد مماته إلا أنه لا يستطيع الإقامة فيها»، ويترك نفركاه بتاح امرأته وابنه الوحيد بمدينة قفط باحثا عن الخلود فيدركه ؛ نري ظلال الخضر وملامحه في ديونيسوس - زاغروس في التراث اليوناني ؛ وفي الإمام الغائب نلمح صفات الخضر أيضاً؛ وتتعدد الأسماء لكن للخلود صيغته الوحيدة.
نري الخلط بين الخضر من جهة وبين إلياس من جهة أخري؛ وبينه وبين George جورجيوس المقدس الذي ورد ذكره عند ابن الأثير والثعلبي وغيرهما..كما نري امتداد الخضر في الربوع الإسلامية وغيرها؛ تري ما الذي منح هذه الشخصية التي تلامس فيها الواقعي التاريخي بالمتخيل البقاءَ والتجدد في الذاكرة الإنسانية؟ هل يعود ذلك إلي تداخل الثقافات؟ هذا الخلط جعل حسني حداد يري أن »‬بعل - هدد الأوغاريتي يتحول إلي نبي في اليهودية »‬إيليا»، وإلي مقدس في المسيحية »‬جورجيوس»، وإلي وليّ في الإسلام »‬الخضر»
ويقول آصيف حسين في مقاله المعنون ب» كاتارجاما أرض الخضر» يقول فيه: »‬إن القليل من يعرف أن كاتاراجاما، مركز طائفة سكاندا بين الهندوسيّين والبوذيّين، لها مكانة في القلوب المسلمة أيضًا. إذ لحقت القدسيّة بالمكان من قبل المسلمين المحلّيّين حول سكاندا، لكنّ كائنا غامضا يدعي الخضر أو الأخضر الذي يُعْتَقَد وجوده ومأواه هنا رُبِطَ مع خالير ماكام في الحيّ المسلم كاتاراجاما غير البعيد عن مينيك جانجا بالطّبع، بل نجد من يعتقدون أنّه الخضر هو الذي تنسب له مسمي كاتاراجاما»
وقد تتبعتُ هذا الحضور المدهش في الشعر والمعاجم والقصة والرواية والأدب الشعبي؛ كما ألقي الخضر بظلاله علي الفن فكم من اللوحات الفنية صورت الخضر ولقاءاته عبر مدارس الفن المختلفة، وقد صور الرسام الشعبي »‬النبيَّ الخضر علي هيئة شيخ جليل تشع علامات الإيمان والتقوي من عينيه ووجهه، في يده مسبحة، وحوله نوق، وزرع أخضر»، وكم من المقامات والمزارات أقيمت شواهد علي مروره هنا أو هناك، وكم من المدن والقري والجُزر سميت باسمه لرؤيته مارا بها أو مكتشفا لها، وقد يحدث الخلط كما في مدينة الخضر برام الله التي يروون أنها »‬دعيت الخضر باسمها هذا نسبة إلي دير أقيم فيها تخليدا للقديس مار جرجس من أمراء القبادون الذي استشهد كما تقول الرواية النصرانية في عام 303م وعيده في أواخر شهر نيسان»، وكأن هذا الخلط متعمد للتداخل والتعدد.
.. في التراث العجائبي
من أجمل ما روي في هذا المجال ما رواه القشيري »‬ أن بعضهم قيل له: ما أعجب ما لقيت في سياحتك؟ فقال : لقيني الخضر، فطلب مني الصحبة، فخشيت أن يفسد عليّ توكّلي».
ويحكي الشيخ أبوالحسن الشاذلي أنه التقي بالخضر واستبدل له بعض الدراهم التي ردها إليه بائع الخبز مما جعله يرهن ملابسه، وقال له :»أنا أحمد الخضر، كنت بالصين فقيل لي : أدرك علياً بتونس فقمت مبادراً إليك».
.. بين إشكالية العقل والتخيل
يمثل موضوع الخضر إشكالية في عقلية الفكر الإنساني إذ تطور تشكيل هذه الشخصية وقدرتها علي الصيرورة والديمومة وتجاوز البيئات والفرق والأزمنة والاختلافات حول وجوده؛ َفي أي عصر كان؟ أهو كائن دوماً؟ ؛ وهل ما يزال حياً ومتي سيموت إن كان مايزال حيا؟ وما سبب خلوده وبقائه ؟ ومَن حظي بمقابلته ومن تعلّم علي يديه ؟ وما درجته ؛ أهو وليٌّ أم نبيٌّ أم رسول أم ملكٌ من الملائكة أم هو شيء لا يعرف كُنهه؟
لم يرد اسم الخضر في القرآن الكريم ؛ فكيف نفسر هذا التتبع والشغف بسيرة حياته منذ مولده وعلاقته مع أبيه وموقفه من النساء ورقّه، وأوصافه وبقائه أو عدم بقائه؟ »‬فالجمهور علي أنه باق إلي اليوم»علي نحو ما سنري؛ هذا الجمهور هو الذي روي هذه الروايات حول سيرة حياته، فما أصولها؟ إنها إنتاج الذاكرة الجمعية للشعوب. ولِم لا يعد الخضر نقطة بحث في الأدب المقارن؟ ففي تركيا نجد سيارات الإسعاف عليها اسم »‬خزر» كما نجد Trabzon-Khidr-Festival الاحتفال بعيد الخضر في مدينة ترابزون التركية و»لم يكن خزر إلياس التركي ذا شعبية عند الفلاحين فحسب بل في الدوائر الرسمية العثمانية أيضا» لقد تناوله الأدباء الأتراك في أشعارهم ونثرهم، وربما يعود لون الرايات الخضراء التي غدت رمزا للدين الإسلامي للخضر بما يوحيه من تجدد واخضرار ونمو وبقاء. وفي لون الخرقة» الأخضر ما يوحي بارتباطها بالخضر ضمنا.
لقد وجدت المخيلة الشعبية الجمعية الباحثة عن الخلود والعلم ضالتها في الخضر وأَلْفَت فيه البديل عن الفناء الذي يزعج الجموع فبحثت من خلاله عن خلودها المنشود المخبوء الذي تُسقط عليه همومها الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والسياسية وغيرها؟ فقد تحوَّل الخضر إلي مصدر إلهام للأولياء، ومصدر إبداع أيضا، فقد أدخل الخضر عامة الناس في الإبداع فمنهم من يُقسم أنه رآه وأنه صاحَبه ؛ لقد حوَّل الخضر المتلقي من قارئ سلبي إلي متلقٍ مبدع، ولذا وظفه الأدباء في إبداعهم، وقد حدث خلط بين الخضر وإيليا (إلياس) »‬عن طريق المقامات والأضرحة المنسوبة لهذا الاسم أو ذاك في الوقت نفسه» وما مردّ الخلط بين الخضر وإلياس وجورجيوس »‬فما يزال مزار الخضر - جورجيوس قائما علي مقربة من البحر عند ميناء السويدية علي مصب نهر العاصي» لقد تحول الخضر عبر البيئات والأزمنة إلي أخضار متعددة.
وحكي لي الدكتور الطاهر مكي أنه عندما زار جامع الزيتونة بتونس أقسم له أحد المصلين أن الخضر يجلس هنا كل خميس -وأشار إلي عمود بالمسجد- ويظل حتي صلاة العشاء، ويبتسم مكي مردفا: ليتني انتظرت حتي الخميس لأري الخضر.
وما يزال الناس يُرجعون نجاح تُجار درب السبعي بقفط وأرباحهم الكثيرة إلي مرور الخضر بهذا الشارع ودعوته لهم بالبركة، و»عليكم السلام يا أبا العباس».
الخضر وجوته
قال الشاعر الألماني جوته Goethe في بداية ديوانه الشرقي الغربي:
»‬هناك، حيث الحب والشرب والغناء
سيعيدك ينبوع الخضر شابا من جديد
إلي هناك حيث الطهر والحق والصفاء
أود أن أقود الأجناس البشرية
حتي أنفذ بها إلي أعماق الأصل السحيق»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.