مؤشرات تنسيق المرحلة الأولى أدبي 2025.. قائمة كليات القمة إعلام وألسن واقتصاد وعلوم سياسية هتاخد من كام؟"    قائمة الراحلين عن الأهلي في ميركاتو الصيف.. ومصير «كوكا»    24 ساعة فارقة.. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم وموعد انتهاء الموجة الحارة    سبب القبض على رمضان صبحي في مطار القاهرة الدولي    بعد وفاة زياد الرحباني.. إليسا تُعيد تقديم «سألوني الناس» في حفل غنائي (فيديو)    وصول قطار الأشقاء السودانيين إلى محطة السد العالى بأسوان.. صور    زلزال بقوة 6.5 درجة يضرب سواحل جزر نيكوبار الهندية    الصين: مقتل 30 شخصًا جراء الأمطار الغزيرة في بكين    المرحلة الأولي 2025 أدبي.. مؤشرات تنسيق الثانوية العامة (الألسن 84.26%)    يحرج صلاح وميسي، ليفاندوفسكي يتصدر قائمة الأكثر تسجيلًا بالدوريات الأوروبية الكبرى آخر 10 سنوات    «مش هسيب النادي للمجهول».. رد ناري من رئيس الإسماعيلي على الدعوة لسحب الثقة    ياسر الشهراني يعود إلى القادسية بعد نهاية رحلته مع الهلال    موعد مباراة ليفربول الودية القادمة أمام يوكوهاما مارينوس والقناة الناقلة    «هيتم تسويقه».. مدحت شلبي يكشف مفاجأة بشأن رحيل نجم وسط الزمالك    وزير التعليم: تطوير 94 منهجًا لجميع المراحل التعليمية    أسعار الخضار في أسواق أسوان اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025    موعد بداية العام الدراسي الجديد 2026    شكل لجنة لمعرفة السبب..محافظ سوهاج يستجيب لاهالى قرية برخيل بشأن واقعة حرائق برخيل المتكررة    الاَن.. الحدود الدنيا وأماكن معامل التنسيق الإلكتروني للمرحلة الأولى 2025 في جميع المحافظات    كم سجل سعر اليورو اليوم؟.. انخفاض كبير مقابل الجنيه المصري الثلاثاء 29 يوليو 2025 في البنوك    توقعات الأبراج وحظك اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025.. مفاجآت عاطفية وأخبار مهنية سارة في كل برج    يوسف معاطي يكشف سبب اعتذار محمود ياسين عن «صاحب السعادة» وأداء خالد زكي الدور    رامز جلال يتصدر تريند جوجل بعد إعلان موعد عرض فيلمه الجديد "بيج رامي"    منة فضالي تتصدر تريند جوجل بعد ظهورها في فرنسا    سكان الجيزة بعد عودة انقطاع الكهرباء والمياه: الحكومة بتعذبنا والقصة مش قصة كابلات جديدة    "إحنا بنموت من الحر".. استغاثات من سكان الجيزة بعد استمرار انقطاع المياه والكهرباء    السيطرة على حريق بمولدات كهرباء بالوادي الجديد.. والمحافظة: عودة الخدمة في أقرب وقت- صور    تشييع جثماني طبيبين من الشرقية لقيا مصرعهما في حادث بالقاهرة    مرشح الجبهة الوطنية: تمكين الشباب رسالة ثقة من القيادة السياسية    إطلاق نار على ضابط شرطة ومدني وسط مدينة مانهاتن الأمريكية    إيران تُهدد برد قاسٍ حال تكرار العدوان الأمريكي والإسرائيلي    تحت عنوان «إتقان العمل».. أوقاف قنا تعقد 126 قافلة دعوية    نشرة التوك شو| الوطنية للانتخابات تعلن جاهزيتها لانتخابات الشيوخ وحقيقة فرض رسوم على الهواتف بأثر رجعي    وزير الثقافة يشهد العرض المسرحي «حواديت» على مسرح سيد درويش بالإسكندرية    تغيير في قيادة «إجيماك».. أكرم إبراهيم رئيسًا لمجلس الإدارة خلفًا لأسامة عبد الله    في عامها الدراسي الأول.. جامعة الفيوم الأهلية تعلن المصروفات الدراسية للعام الجامعي 2025/2026    محمد معيط: العام المقبل سيشهد صرف شريحتين متبقيتين بقيمة تقارب 1.2 مليار دولار لكل شريحة    ارتباك بسوق المحمول بسبب «رسائل الضريبة الجمركية»    أخبار 24 ساعة.. انطلاق القطار الثانى لتيسير العودة الطوعية للأشقاء السودانيين    تعرّضت للسرقة المنظمة بمحور "موراج".. معظم المساعدات المصرية لم تصل إلى قطاع غزة    قرار مفاجئ من أحمد عبدالقادر بشأن مسيرته مع الأهلي.. إعلامي يكشف التفاصيل    الاندبندنت: ترامب يمنح ستارمر "الضوء الأخضر" للاعتراف بدولة فلسطينية    وزير الخارجية السعودي: لا مصداقية لحديث التطبيع وسط معاناة غزة    جوتيريش: حل الدولتين أصبح الآن أبعد من أي وقت مضى    حفل العيد القومى لمحافظة الإسكندرية من داخل قلعة قايتباى.. فيديو    محافظ سوهاج يوجه بتوفير فرصة عمل لسيدة كفيفة بقرية الصلعا تحفظ القرآن بأحكامه    للحماية من التهاب المرارة.. تعرف على علامات حصوات المرارة المبكرة    من تنظيم مستويات السكر لتحسين الهضم.. تعرف على فوائد القرنفل الصحية    لها مفعول السحر.. رشة «سماق» على السلطة يوميًا تقضي على التهاب المفاصل وتخفض الكوليسترول.    جامعة الإسماعيلية الجديدة الأهلية تُقدم خدماتها الطبية ل 476 مواطناً    حزب مستقبل وطن بالبحيرة يدعم المستشفيات بأجهزة طبية    حرائق الكهرباء عرض مستمر، اشتعال النيران بعمود إنارة بالبدرشين (صور)    رئيس اتحاد طنجة: الزمالك دفع أقل من الشرط الجزائي ومعالي فضل الأبيض عن الدنمارك    مي كساب بإطلالة جديدة باللون الأصفر.. تصميم جذاب يبرز قوامها    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في كتاب جديد عن الشعر الأمريكي المعاصر‮:‬ المدينة الصناعية ‮في شعر هارت كرين
نشر في أخبار الحوادث يوم 01 - 10 - 2016

وها أنتَ‮ ‬عبر الميناء تنتصبُ‮ ‬في ثوبك الفضي‮ .. ‬كما لو أن الشمس أفاضت عليكَ‮ ‬من أشعتها فلوَّحَتْك‮ .. ‬وفي وقفتك المنفرجة يلوح شبح حركة كامنة مكنونة تضمن لك الخلود‮.‬
من قصيدة‮ »‬‬الجسر‮» ‬الشاعر هارت كرين
في مقالته الشهيرة‮ «الشعر الحديث‮»‬‬،‮ ‬الواردة ضمن الكتاب الذي حرره بروم ويبر،‮ ‬والمعنون‮ (‬هارت كرين‮: ‬الأعمال الشعرية الكاملة ومختارات من رسائله ونثره‮)‬،‮ ‬يُسَلم كرين بأن تغلغل الآلة في حياة الناس في العصر الحديث‮ «فرضت علي الشعراء سلسلة من التحديات التي تتطلب منهم مواجهتها والتصدي لها‮». ‬وفيما يري كرين،‮ ‬فإن الشعر الذي لا يمكنه استيعاب الآلة وزمن الآلة،‮ ‬مثلما استوعب في الماضي الأشجار والماشية والبواخر والقلاع،‮ ‬إنما هو شعر فشل في القيام بكامل واجباته المعاصرة‮.‬
‮(‬ويبر‮ ‬1966‮: ‬ص261‮).‬
وتتطرق مقالة كرين إجمالاً‮ ‬إلي ضرورة إبداع الشعر في عصر يسوده العلم،‮ ‬وتهيمن التكنولوجيا فيه علي حياة الناس وتحدد مصائرهم‮. ‬
علي النقيض من التصور السائد،‮ ‬فإن الدهشة والعجب اللذين يملكان علينا أنفسنا عند رؤية إحدي الطائرات وهي تهبط هبوطًا اضطراريًّا عنيفًا هي أقل إلهامًا وإيحاءً‮ ‬للشاعر في إبداعه مما لو وقعت عيناه علي قائد سيارة وهو يتنقل بين السرعات مستخدمًا عصا السرعات في سيارته‮. ‬وما عنيته هو أن إسقاط ما هو رومانتيكي خالص علي ما في الآلات من قوة وجمال لا يقربها منا بحال؛ فالآلات لن تفعل فعلها الإبداعي الشعري في وجداننا وحياتنا إلا إذا نبعت دلالاتها الجمالية من داخلها ومن سياقاتها فتشكل بذلك،‮ ‬وبدون افتعال أو تصنع من جانبنا،‮ ‬معجمها من المفردات والمرجعيات مثلما كان الحال مع العالم الريفي الرعوي بمراعيه ومحاريثه وأجرانه‮.‬
‮ (‬ويبر‮ ‬1966‮: ‬ص262‮).‬
علي الرغم من إيمان كرين بضرورة استيعاب الآلة والرموز الأخري التي يعج بها العالم الصناعي المديني داخل السياقات الشعرية الحديثة،‮ ‬فإنه يرفض،‮ ‬في الوقت ذاته،‮ ‬رفضًا قاطعًا الميكنة المتوحشة التي تنال من جمال الحياة والطبيعة والفنون‮. ‬إلا أن التزام كرين بالوقوف وراء أمريكا العلم وأمريكا القدرات التكنولوجية الفائقة،‮ ‬وحرصه علي بقاء العلاقة بين البشر والطبيعة أقوي وأصح ما تكون،‮ ‬قد عقَّدا من ميله إلي المدينة الأمريكية الحديثة‮ «جنته المعدنية تلك‮»‬. ‬وفي إيماء منه لشعر والت ويتمان الذي آمن بالعالمين معًا،‮ ‬عالم الحضر الصناعي وعالم الريف الرعوي،‮ ‬فإن‮ ‬كرين في كتابه الذي حرره‮ ‬بروم ويبر‮ (‬رسائل هارت كرين‮) ‬ينحاز بصورة أوضح إلي عالم المدينة‮. ‬وفي الحقيقة،‮ ‬إن كرين قد أخذ علي عاتقه مهمات والتزامات صعبة،‮ ‬تتجاوز حدود عمره،‮ ‬وتفوق قدراته بكثير؛ إذ أراد أن يصبح‮ «المبشر بانبلاج فجر عصر الآلة‮»‬.‬
‮ (‬ويبر‮ ‬1965‮: ‬ص129‮).‬
يُعد شعرُ‮ ‬كرين مثالاً‮ ‬لافتًا علي مدي مرونة التخييل الشعري في محاولته لإدراج المدينة الصناعية داخل سياقات شعرية مقبولة؛ فالشاعر الحديث في نظر كرين ملزم إن استدعي الأمر بإعادة تشكيل عالمه الإبداعي كيما يستوعب التطورات التكنولوجية في نطاق هذا العالم الإبداعي‮. ‬وفي تحدٍّ‮ ‬صريح منه لصورة المدينة الفاجرة عند إليوت في‮ «الأض الخراب‮»‬‬،‮ ‬أو كما وردت في‮ (‬أناشيد الجحيم‮) ‬عند پاوند،‮ ‬وإنْ‮ ‬بصورة أقل وضوحًا في تحديها،‮ ‬يعتقد كرين أن قصيدته الملحمية،‮ ‬متعددة الأجزاء،‮ ‬ذائعة الصيت‮ «الجسر‮»‬‬،‮ ‬كانت برهانًا علي صحة ما يذهب إليه ويعتقده لا العكس‮. ‬وكشاعر يؤمن بالمدن الصناعية الأمريكية،‮ ‬يشرع كرين،‮ ‬في قصائده الباكرة،‮ ‬في استطلاع أبجديات المدينة الحديثة واستقصاء الشعريات الجديدة الكامنة في المجتمع الصناعي المديني؛ فقصائده القصيرة الواردة في ديوان‮ (‬الأبنية البيضاء‮) ‬المنشور في عام‮ (‬1929‮) ‬تقدم مثالاً‮ ‬للرغبة في التوفيق بين العالمين المتعارضين‮: ‬عالم الأسطورة وعالم الآلة‮. ‬علاوة علي أن المضامين الشعرية في قصيدته‮ «الجسر‮»‬ ‬تكشف عن القبول المطلق بالمدينة والآلة من أجل تمجيد روح الأسطورة الأميركية وكل ما ارتبط بها من مغامرات تهدف لتحقيق الحلم الأمريكي‮. ‬ويري كرين أن روح الآلة أو المادية الغليظة أو النزعة التجارية الفظةلم تنل من الأسطورة الأمريكية‮.‬
في هذا السياق،‮ ‬تأتي قصيدة كرين الطويلة‮ «الجسر‮»‬ ‬تلبية لاحتياج العصر والذي حاول پاوند علي طريقته تلبية حاجته بابتعاث الأصوات الخارجة من أتون مملكة الموت في المدن الكبيرة،‮ ‬وإليوت الذي حاول بنهجه الخاص أن يقدم في قصائده مدينة حقيقية خارج الزمان والمكان‮. ‬ولو بدت لنا الآن إجابة كرين علي معضلة المدينة‮ ‬غيرَ‮ ‬مقنعةٍ،‮ ‬وبدا لنا أن أشعاره مليئة بتناقضات لا تخطئها العين الفاحصة،‮ ‬فعلينا أن نعود إلي ما قاله روبرت لويل في مقالة قصيرة بعنوان‮ «باترسون‮»‬‬،‮ ‬يشرح فيها ويفسر طبيعة الأسطورة التي يمكن للشاعر الأمريكي أن يتناولها‮. ‬والسطور الآتية تمثل الأسطورة التي تغني بها كرين في قصيدة‮ «الجسر‮»‬ ‬المكونة من عدد من المقطوعات الشعرية‮ : ‬إن الأسطورة الأمريكية هي أسطورة قلما تخلفت عن الظهور في أدبنا،‮ ‬فيها شيء من قوتنا،‮ ‬وفيها شيء من عنجهيتنا ومثالبنا‮. ‬والأسطورة في أسوأ صورها هي دعاية فجة ومديح زائد ممجوج وتعال وكبر ممقوتان‮. ‬فنحن نصادف فيها جنبًا إلي جنب التباهي بحجم أمريكا وقوتها وحيويتها والزهو بقيمة الإنسان العادي وبالعالم الجديد والخطب المصيرية والآلة والقناع النيوروماني البشع الذي يخفي وراءه‮: ‬الديمقراطية والحرية والجرأة علي تخطي كافة الحدود وحقول الذرة والأرض الممتدة‮. ‬كم سيبدو ذلك الخليط كله طنينًا أجوف فارغًا بلا معني ولا مصداقية في نظر إنسان ذي بصيرة ينتمي لحضارة‮ ‬غير حضارتنا وثقافة‮ ‬غير ثقافتنا‮! ‬لكن ومع ذلك،‮ ‬فإن الأسطورة الأمريكية أمر بالغ‮ ‬الخطورة والحيوية‮. ‬لقد آمن بها ويتمان،‮ ‬وإيمرسون،‮ ‬وهارت كرين،‮ ‬وهنري آدامز،‮ ‬وهنري جيمس‮. ‬فأمريكا في حالي الخير والشر هي كينونة هائلة،‮ ‬وكيان قوي،‮ ‬وبلد روماني النزعة حتي النخاع‮.‬
‮ (‬لويل‮ ‬1948‮: ‬ص693‮).‬
في مقالة بعنوان‮ «أهداف ونظريات عامة‮»‬‬،‮ ‬يحدثنا هارت كرين عن محاولته‮ «لجسر الهوة بين ما اصطلح علي تسميته التجربة الكلاسيكية وبين الكثير من الحقائق الكثيرة المتنوعة التي يغص بها اليوم عالمنا المضطرب المشوش‮.‬
‮(‬ويبر‮ ‬1966‮: ‬ص217‮). ‬
لكن كرين إذ حمل علي عاتقه،‮ ‬منذ بداية مشروعه الشعري،‮ ‬تلك المهمة الصعبة في التوفيق بين الأضداد المتنافرة كالريف والحضر،‮ ‬والكلاسيكي والحديث،‮ ‬لم يجد إطارًا أسطوريًّا يصلح لاستيعاب النقيضين معًا؛ فقصائد كرين الباكرة دليل ساطع علي مدي التقلقل والتذبذب في النظرة الجمالية عنده‮. ‬إن الواقع المادي للمدينة هو علي الأرجح الصورة الشعرية الطاغية،‮ ‬وهو الجانب التي يتجلي فيه كأفضل ما يكون قدرة كرين علي التكوين الاستعاري والكنائي‮. ‬لقد كان كرين مهيئًا منذ قصائده الباكرة لنبذ الطرائق الرومانتيكية إيجادًا منه وتخليقًا لشعريات تنبع من واقع وقلب التجربة في المدينة الصناعية الحضرية؛ ليمثل ذلك إضافة ومجدًا يحسبان له كشاعر‮. ‬ولكننا نلاحظ في قصائد مثل‮ «البرج المحطم‮»‬ ‬أن المدينة تجرح إحساس الشاعر باعتبارها الوجه الطاغي للمعاصرة‮. ‬وما قصيدتا‮: "‬محور الدولاب‮"‬،‮ ‬و"أغنية‮" ‬الواردتان في‮ "‬قصائده الكاملة‮" ‬سوي مداخلات دقيقة تحمل في ثناياها قيمًا جمالية مغايرة لما هو سائد في مجتمع المدينة الصناعية‮. ‬يخاطب كرين المدينة قائلاً‮: ‬
أيتها المدينة
إن محاور دواليبك لا تحتاج زيت الغناء
سأهمس بالكلمات لنفسي
وأدسها في جيوبي‮.‬
إن قصائد كرين الباكرة،‮ ‬تنبع من هذا التوتر والتعارض بين الشاعر والمدينة،‮ ‬وتشهد علي مصداقيته‮. ‬وفي المجموعة الشعرية الأولي‮ (‬الأبنية البيضاء‮)‬،‮ ‬يواصل الشاعر سجاله الاعتراضي الذي بدأه في القصيدتين السالفتي الذكر؛ فموضوعات قصائد تلك المجموعة تنبثق من صميم انشغال الشاعر المتنامي بدوره ووظيفته في مدينة لا تُفرخ إلا‮ «نفوسًا خشنة ورغبات رعناء‮»‬. ‬وفي قصيدة‮ «أسطورة‮»‬ ‬التي يستهل بها كرين المجموعة المشار إليها آنفًا،‮ ‬يذكِّر الشاعر القراء بأنهم يقفون وجهًا لوجه أمام صورة المدينة في المرآة حيث‮ «تنطمر الحقائق في‮ ‬غياهب الصمت‮»‬‬،‮ ‬وتضيع كلمات التبجيل والعرفان التي يهديها الشاعر لروح‮ «الرسام المتوفي‮»‬‬،‮ ‬في ضباب ذلك‮ «الربيع المختنق بالدخان الذي يملأ جنبات الضاحية‮»‬. ‬وفي قصيدة‮ «القسوة البالغة‮»‬‬،‮ ‬يساوي‮ ‬كرين بين مشاق العيش‮ (‬صعوبة الحياة‮) ‬والتواجد في المدينة التي تئن تحت لهيب الشمس القائظة الحرارة‮:‬
فالشارع حيثما التفتنا لا يفعل سوي
النظر إلي الأبواب والبنايات بعيون كاسفة حزينة
‮(‬ويبر‮ ‬1966‮: ‬ص10‮).‬
ثم يستحضر كرين مجددًا هذا التعارض الأليم مع المدينة في قصيدة أخري عنوانها‮ «استرخاء الأنهار‮»‬. ‬وقد مكنته جذور طفولته الشبيهة بطفولة الشاعر الرومانسي الإنجليزي وليام وردزورث أن يضفي علي القصيدة روحًا‮ ‬فياضة‮:‬
سوسن بري وأعشاب برية‮ ‬
وأخيلة المختليات الشاهقة تمر بالخاطر
حيث سياط الظهيرة اللافحة
تنصب علي قمم أشجار السرو
‮(‬ويبر‮ ‬1966‮: ‬ص16‮).‬
لكن الطفل يكبر ويشب عن الطوق،‮ ‬وتكشف له المدينة مرآها الكئيب بما ينطوي عليه ذلك من قبح وتهديد ماثل في كل شيء‮. ‬يقول كرين‮:‬
ثم تجئ المدينة التي عبرتها مؤخرًا
وقد دهنت بشرتي بالمراهم الواقية
ولم أر منها إلا مايثير السخط
‮(‬ويبر‮ ‬1966‮: ‬ص16‮).‬
إن الشاعر الصعلوك في قصيدته‮ «شابلينية‮»‬ ‬هو مجرد نكرة في المدينة الكبيرة‮. ‬وتقوم فكرة القصيدة علي عرض ما يدور فيها من خلال منظار مقرب يجمع بين تشارلي شابلن والشاعر،‮ ‬وهما فنانان منبوذان يلاقيان الأمَرَيْن في المدينة الكبيرة حيث تسود القيم التجارية البحتة‮. ‬ومن خلال البنية الرمزية في القصيدة،‮ ‬يتراءي شابلن الذي يمثل الضحية المألوفة للنظام السائد في المدن الصناعية الكبيرة‮. ‬والشخص المقيم في مدينة كرين ذلك‮ «الفردوس المعدني‮»‬‬،‮ ‬يسير عبر شوارع‮ «تزداد ضيقًا وعتمة عند بزوغ‮ ‬الفجر‮»‬‬،‮ ‬لكن هذا الفجر ليس هو الفجر الذي نصادفه في شعر الشاعر الأميركي‮ ‬روبرت فروست،‮ ‬علي سبيل المثال،‮ ‬بل هو‮ «فجر المحركات‮»‬‬،‮ ‬فجر الآلات التي تعذب الناس وتقتلهم‮. ‬في مدينة كرين المعدنية‮ «يلهب الأسفلت‮»‬ ‬أجسام الأعداد الضخمة من العابرين ويلفظهم،‮ ‬أولئك المحاصرين بين‮ «قضبان الصلب وأعواد الحديد»‬؛ فآلة الموت التي تمثلها‮ «الحرب العالمية الأولي‮»‬ ‬قد صبت حمم‮ ‬غضبها فوق المدينة،‮ ‬فأهلكت الحرث والنسل،‮ ‬وتركت وراءها أرضًا خرابًا‮. ‬والمقطع التالي من قصيدة‮ ‬كرين‮ «فاوستوس وهيلين‮»‬ ‬هو واحد من قليلٍ‮ ‬بين الرؤي التشاؤمية في الأدب الحديث التي تنذر بقرب الدينونة والحساب‮. ‬وهي تُذكرنا برؤي شبيهة في أدب كل من‮: ‬بودلير وإليوت وپاوند متعلقة ببزوغ‮ ‬عصر الألة وظهور المدينة الحديثة‮:‬
ها نحن أولئك
الذين نستعجل الخراب
بصنعنا أنواعًا لا تُحصي من الآلات
نحن الذين نستعجل هبوب نسائم التلال
ونتفوه بكل قبيح في حق المروج الخضراء
ونزدري صدوع وتشققات المنازل القديمة الخاوية
شأننا شأن النسوة العجائز اللواتي يصرفن بأسنانهن
وهن ينتظرن بوهَنٍ‮ ‬ويأس وبلا جدوي
‮(‬ويبر‮ ‬1966‮: ‬ص32‮).‬
في قصيدة‮ «الجسر‮»‬‬،‮ ‬يبدو وكأن كرين‮ «يستبدل جبل برناسوس‮ (‬موطن أبوللو وإلهات الشعر في الأسطورة الإغريقية‮) ‬بمدينة نيويورك،‮ ‬ويستعيض عن إلاهات الشعر بالعلم،‮ ‬وهما أي نيويورك والعلم معبودا الزمن الحاضر المبجلين المهابين‮.‬
‮ (‬ويبر‮ ‬1965‮: ‬ص‮ ‬263‮).‬
وبقطع النظر عما أصابت قصيدة‮ «الجسر‮»‬ (‬1930‮) ‬من نجاح أو فشل،‮ ‬فإن القصيدة‮- ‬التي جاءت كرد علي قصيدة‮ «الأرض الخراب‮»‬ - ‬ذات أصل‮ ‬غائر في أسطورة راسخة‮. ‬والأسطورة التي تجسدها القصيدة وتنطق باسمها ولسانها هي أسطورة أميركا،‮ ‬أسطورة لم ينل منها بعد عصر الآلة،‮ ‬ولم يمحها تدافع الأحداث المتلاحقة‮. ‬والمقطوعة التي يفتتح بها كرين القصيدة الملحمية هي‮ «استهلالية علي شرف جسر بروكلين‮«،‮ ‬وهي تحية احتفاءٍ‮ ‬بعظمة المدينة‮ (‬نيويورك‮) ‬وبجسر بروكلين‮ (‬إحدي ضواحي المدينة‮) ‬في كل أبعاده الواقعية والأسطورية والرمزية‮. ‬وبالمعني الرمزي،‮ ‬فإن مشهد الجسر قد استحال إلي مشهد للأمة الصناعية المدنية في أوج ازدهارها‮. ‬يقول كرين مخاطبًا الجسر‮:‬
وها أنتَ‮ ‬عبر الميناء تنتصبُ‮ ‬في ثوبك الفضي
كما لو أن الشمس أفاضت عليكَ‮ ‬من أشعتها فلوَّحَتْك
وفي وقفتك المنفرجة يلوح شبح حركة كامنة مكنونة
تضمن لك الخلود
‮(‬ويبر‮ ‬1966‮: ‬ص46‮).‬
إن قصيدة‮ «الجسر‮»‬ ‬هي قصيدة مدينية،‮ ‬وتتضمن في ثناياها شذرات شعرية وتفاصيل تجارب وخبرات واحد من أبناء المدينة‮ (‬السارد الرئيس في القصيدة‮)‬،‮ ‬ينهض لتوه من النوم في شقته الكائنة بالضاحية الصناعية كما هو الأمر في المقطوعة الشعرية‮: «فجر الميناء‮»‬‬،‮ ‬وهنا ينتقل كرين من الأسطوري إلي الواقعي فيما يتناهي للأسماع ضجيج وعجيج الآلات المختلطة بأصوات البشر والتي لانهاية لها ولا حد،‮ ‬مما يدفع بطل القصيدة إلي الكآبة والانقباض‮. ‬وتتوالي صور الإكراه والقمع في مخيلة البطل ربيب المدينة‮: «أصوات العويل المتصاعد‮ / ‬الإشارات الضوئية التي تظهر ثم تنطفئ‮ / ‬زقاق-علوي‮ / ‬بخار‮ ‬يتداخل في بخار‮»‬ ‬وهكذا دواليك‮. ‬وفي هذا السياق،‮ ‬يبزغ‮ ‬فجر المدينة مختلطًا بأحاسيس شتي‮:‬
ويبدأ الصقيع في التبدد
ومن أعلي الأبراج السكنية الضخمة
عبر مياه نهر‮ «مانهاتن‮«
ومن النافذة الثالثة والعشرين‮ ‬
ثمة عيون‮ ‬يبهرها ضوء قرص الشمس
الصاعد في الأفق ومرآي النوارس المقرورة عن قرب‮.‬
في مقطوعة شعرية أخري بعنوان‮ «النهر،‮ ‬يتقاطع عالم المدينة مع ما جري في جنة عدن من خطيئة‮ ‬وعقاب وتكفير‮. ‬وفي ذات القصيدة من ديوان‮ «الجسر‮»‬‬،‮ ‬نري كيف تستلب المدينة الغارقة في التكنولوجيا روح البشر فيها،‮ ‬وكيف تقصيهم عن ماضيهم وطبيعتهم ودينهم وربهم‮. ‬وقصيدة‮ «النهر‮»‬ ‬تؤكد أن التقدم التكنولوجي والحضري قد نال من إنسانية البشر وأضعفها،‮ ‬وجار علي الطبيعة فأفسد نظامها وأنهكها‮. ‬والصورة المركزية في القصيدة هي القطار الذي ينقل الناس من مكان لآخر‮ - ‬القطار بدلالتيه الحرفية والمجازية علي السواء‮- ‬فالقطار لا ينطوي فقط علي كونه آلة مادية من نواتج العلم والتكنولوجيا،‮ ‬ولكنه يكتسب دلالة ناقل النفوس التي اغتربت عن ماضيها الأسطوري،‮ ‬أو بمعني آخر إنه ينقل الأحياء‮- ‬الموتي من ساكني المدينة‮ «نيويورك‮»‬ . ‬والشاعر هنا يسترجع قصيدة وات‮ ‬ويتمان‮ «عبَّارة بروكلين‮»‬ ‬من ديوان‮ (‬أوراق العشب‮) ‬ليحقق الموازاة بين القطار‮ ‬،‮ ‬آلة القرن العشرين‮ ‬،‮ ‬و العبَّارة التي تغني بها ويتمان في القرن التاسع عشر‮. ‬وبالرغم من إعجاب كرين‮ ‬بسرعة القطار،‮ ‬فإنه يري أن نبوءة ويتمان‮: «آخرون وآخرون سيبنون العبَّارات لتنقل الناس من ضفة لأخري‮»‬‬،‮ ‬هي نبوءة كذَّبها واقع القرن العشرين؛ فقد بات عبور نهر بروكلين في عبَّارة أمرًا ملفوظًا في أعقاب الميكنة الواسعة النطاق وانتشار الحواضر والمدن الحديثة‮.‬
في قصيدة‮ «الجسر‮»‬ ‬تمخضت عملية التنمية الحضرية عن بروز مدن ضخمة عملاقة،‮ ‬راحت بمرور الزمن تلفظ ساكنيها تاركة إياهم‮ «جوعي في الطرقات هنا وهناك‮»‬. ‬ويري الشاعر في مقطوعة‮ «الرقصة‮»‬ ‬أن خلاص الإنسان ليس في صنع الآلة،‮ ‬وليس في‮ «الشق والمنفذ الذي يصنعه الحديد‮»‬. ‬ولكن الخلاص الحق يكمن في التصالح مع الطبيعة الأم،‮ ‬وفي انسجام حياة البشر مع الإيقاع الكوني للفصول والمواسم المناخية الطبيعية‮. ‬وهنا يتجلي لنا رفض كرين القاطع لكل من المدينة والآلة‮. ‬وهو يأسي لكون أرض أمريكا البكر التي تركها الآباء الرواد للأجيال من بعدهم قد صارت محطًّا‮ ‬للمداخن والأنفاق والروافع والهوائيات،‮ ‬ناهيك عن أن الفضاء الجوي الأمريكي ذاته قد انتُهك،‮ «وأصبح يموج هو الآخر بالحركة والضجيج‮»‬: «النسور الضخمة‮ (‬الطائرات‮) ‬تجوب السماء فيما ظلالها تنتشر فوق أنحاء المدينة‮»‬. ‬ولأن المدينة تتمدد وتتسع يومًا في إثر يوم،‮ ‬فإن البيئة الطبيعية تفسد ويسوء حالها،‮ ‬وتحل الدموع في عيون الناس محل الضحكات علي الشفاه،‮ ‬ولا يعود للأحلام والأماني مجال وتتساقط الأقنعة عن الوجوه‮. ‬وفي آخر المطاف يجد إنسان المدينة نفسه ملفوظًا لا يتقبل ماحوله ولا يملك من واقعه نجاة أو خلاصًا؛ فقد سلبت نفسه وانقطعت بينه وبين ماضيه سائر الأسباب والسبل،‮ ‬فهو ضائع تائه في متاهات المدينة‮:‬
فهو يحسب نفسه هباءة في كفن
وهو يسمع نفسه‮ ‬
كصوتِ‮ ‬محركٍ‮ ‬في‮ ‬غمامة داكنة‮!‬
ويحسب نفسه الحجارة الضخمة‮ ‬
التي تُبني بها سراديب كل سجن
ويري نفسه ضائعًا‮ ‬
في ذروة المرور الخانق‮ ‬
ويجابه عالم‮ ‬المقايضات
ويحيا في دنيا الأسهم والسندات‮ ‬
‮(‬ويبر‮ ‬1966‮: ‬ص89‮).‬
إن مدينة كرين هي عالم القوي والمحركات التي تختزن الموت وتشيع الخوف في النفوس‮. ‬وعلاوة علي ماتبثه في النفوس من خوف ورعب،‮ ‬فإنها تدفع العقل دفعًا للحدس بأن ثمة كوارث مخيفة وشيكة الوقوع لا محالة‮:‬
حلقت الروح التي أوجدها النفط قاصدة آفاقًا جديدة
بعد أن تعلمت الكثير من احتضان‮ «مارس‮»‬ ‬إله الحرب لها
مناطق وبقاع جديدة آمنة سرعان ما آلت لتصبح مسرحًا
تدور فوقه علي قدم وساق تسوية حسابات فائقة الشراسة والقسوة‮!‬
‮(‬ويبر‮ ‬1966‮: ‬ص90‮).‬
إن السارد في مقطوعات من قبيل‮ «أغنيات ثلاث‮»‬ ‬يمضي مثقلاً‮ ‬شاعرًا‮ ‬بالذنب نيابة عن الجميع،‮ ‬وهو ذنب صنعته المدينة والآلة،‮ ‬تضخَّم وتعقد بفعل انتهاك حرمة المقدسات الأرضية والأمومية.كما تشير القصيدة إلي أن الميكنة والتمدين ينطويان علي سوء تقدير فادح للأساطير،‮ ‬وهما يبتذلان عاطفة الحب في عصر يدعي بأنه عصرُ‮ ‬التقدم التكنولوجي‮. ‬وفي مدينة كرين الحديثة لا مكان لأولئك الحالمين بالأبدية أمثال‮: ‬الشاعرة الأمريكية إميلي ديكنسون،‮ ‬وكريستوفر كولومبس،‮ ‬و الشاعر والت ويتمان ممن‮ «يعصرون أفضل النبيذ والخمور»‬؛ لأن المدينة تفضل إيواء طلاب المتع والملذات الذين لا همَّ‮ ‬لهم سوي إشباع شهواتهم الحيوانية‮:‬
في العطلات الأسبوعية
يتكالب اللاهثون وراء الربح السريع‮ ‬
علي حلبات سباق الخيل
وهنا وبعد مرور ثلاث ساعات من إشارة البدء يهبط
ملوك الغولف مثني وثلاثًا أرض حلباتهم المربعة
وصحبتهم المضارب وفي فم كل منهم سيجارُهُ
‮(‬ويبر‮ ‬1966‮: ‬ص109‮).‬
لم تعد مدينة كرين هي أرض الميعاد لكل الناس،‮ ‬كما حلم بها ويتمان وكولومبس‮ ‬،‮ ‬لكنها صارت حكرًا علي قلة من‮ «سماسرة الأراضي الذربي اللسان‮»‬‬،‮ ‬ومهربي الخمور ومخرجي الأفلام السينمائية في هوليود وراكبي خيول السباق‮. ‬فالشاعر الذي يشعُر وهو في المدينة الأمريكية أنه ذو أصل تاريخي كريم،‮ ‬وأنه ينتمي‮ ‬لتاريخ مجيد،‮ ‬يتوق للخروج من جحيم العيش في المدينة الصناعية إلي الحياة الطليقة في البراري الأمريكية التي يسكنها السكان الأصليون الهنود‮. ‬يتوق الشاعر للفكاك من براثن القرن العشرين،‮ ‬والعودة إلي القرن السابع عشر؛ ليرجع لأصله،‮ ‬ويسترد هويته الحقيقية بعد أن سلبته المدينة وآلاتها الصناعية حريته وبراءته‮.‬
في مقطوعته المعنونة‮ «كويكر هِلْ‮»‬ ‬أو‮ «جحيم كويكر‮»‬‬،‮ ‬ثمة إشارة إلي‮ «بوابات الغضب‮»‬ ‬التي تنفتح علي الجحيم اليومي في المدينة،‮ ‬وإلي الصراع الشرس من أجل البقاء‮ - ‬وهي المرادفات الحديثة للمغامرات الملحمية للأبطال الكلاسيكيين في جحيم الأساطير القديمة.كما تمثل التجربة الحياتية في المدينة الحديثة أيضًا عذاب النفوس الإنسانية في المُطهر‮ (‬جبل النار الفاصل بين الجنة و الجحيم في الكوميديا الإلهية للشاعر دانتي‮). ‬وفي مقطوعة‮ «النفق‮»‬‬،‮ ‬يبدأ إنسان المدينة رحلته اليومية بركوب مترو الأنفاق‮. ‬وعلي المستوي المجازي،‮ ‬فإن رحلة المترو تُعد صورة من صور الجحيم؛ فالمسافرون‮ (‬سكان المدينة الصناعية‮) ‬يُحشرون في عربة تسير في نفق مظلم لا يرون له نهاية‮. ‬إنها رحلة شاقة أليمة تهيمن عليها من ألفها ليائها قوانين الحركة الآلية وإيقاعاتها‮: «ضجيج حركة القطار في النفق،‮ ‬رتابته‮ / ‬هي اللسان الناطق‮ ‬أيضًا‮ / ‬بما يعتمل في النفوس‮ / ‬ونلمحه فوق الوجوه دون نأمة‮»‬.‬
‮ (‬ويبر‮ ‬1966‮: ‬ص109‮).‬
وبغض النظر عما يعانيه البشر من عذاب في العصر الصناعي،‮ ‬فإن كرين لايزال جادًا في البحث عن أثر‮ «فردوسه المعدني‮»‬ ‬في المدينة الصناعية بنت القرن العشرين‮. ‬وعلي الرغم من وطأة مشهد قطار الأنفاق الذي يصور مدي‮ «تحكم الآلة في البشر‮»‬. ‬‮ (‬ويبر‮ ‬1965‮: ‬241‮) ‬‮ ‬فإن الفقرة الختامية في مقطوعة‮ «النفق‮»‬ ‬هي إعادة توكيد لإيجابيات الآلة والميكنة برغم ما يعانيه البشر من عذاب وألم؛ فبطل القصيدة يري في قطار الأنفاق جانبًا ملحميًّا وجانبًا‮ ‬تطهيريًّا،‮ ‬ومحطة لابد منها في رحلته إلي‮ (‬أطلانتيس‮) ‬الجنة المفقودة‮. ‬وترمز‮ (‬أطلانتيس‮) ‬إلي كليهما‮: «غد الشاعر وغد أمريكا‮»‬. ‬ويري الشاعر‮ ‬أن لحظة وصوله إلي جنته الموعودة‮ (‬أطلانتيس‮)‬،‮ ‬تعد‮ ‬بمنزلة‮ «قُبلة الحياة التي تغسل كل شقاء الرحلة‮»‬‬،‮ ‬وتمحو كل عناء الوصول‮ «فرديًّا‮ ‬كان أو جماعيًّا‮»‬. ‬وتحتفي قصيدة‮ «الجسر‮»‬ ‬بالجمال الذي يتولد خلال المعاناة والألم،‮ ‬وكل ما ينتظر البشر في أطلانتيس من رغد وهناء حتي ليبدو السعي إلي‮ (‬أطلانتيس‮) ‬هو ما يبدد هواجس الشاعر فيما يتعلق بمستقبل الأمة الصناعية الحضرية‮. ‬إن تجربة البحث عن الجنة المفقودة تنحي جانبًا شكوكه في جدوي مغامرته الملحمية وفي اضطلاعه بدور الناطق الشعري الشرعي باسم أمريكا،‮ ‬كما حلم بها سلفه العظيم والت ويتمان‮. ‬وبهذا المعني لعل‮ «الجسر‮»‬ ‬كرمز لأمريكا وكقصيدة تنفخ الحياة في ذلك الرمز،‮ ‬ضمن اعتبارات أخري،‮ ‬هو‮ «الجواب الشافي‮»‬ ‬لكل ما يتعلق بالعودة إلي‮ (‬أطلانتيس‮) ‬المفقودة المنشودة‮. ‬وتشكِّل أسطورة المدينة الفاضلة‮ / ‬أطلانتيس،‮ ‬حجرَ‮ ‬الزاوية في بناء قصيدة‮ «الجسر‮»‬. ‬وفي العبارات العديدة المأخوذة عن أفلاطون،‮ ‬والتي صدَّر‮ ‬كرين القصيدة بواحدة منها،‮ ‬يكمن مغزي استخدامه لهذه الأسطورة‮. ‬وإذ تشارف القصيدة علي نهايتها نري إشارات إلي قيم ومثل إنسانية بناءة،‮ ‬مثل‮: ‬الحب المتأصل في مظاهر‮ «الانسجام والنظام‮ » ‬التي تسود المدينة الخيالية التي يحلم بها كرين‮. ‬إن أطلانتيس هي مدينة كرين الأثيرة،‮ ‬وهي الملاذ الآمن‮ ‬للراوي‮ / ‬السارد،‮ ‬وهي أرض الميعاد للرواد والرحالة المسافرين‮ ‬،‮ ‬العابرين المسافات بين اليابسة و الماء‮.‬
‮ ‬الفصل الثالث من كتاب‮ «رحلة‮ ‬القوافي في متاهات المدينة‮.. ‬مقاربات في الشعر الأمريكي‮»‬ ‬للدكتور صديق محمد جوهر‮.‬
الكتاب سيصدر قريباً‮ ‬عن دار صفصافة‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.