ذات مساء سكندري مُواتٍ، بالعام 1965، أي منذ نصف قرن تقريباً، غادر مجموعةٌ من(الصبية) قصر ثقافة الحرية، بعد انتهاء ندوة الإثنين (اللقاء الأسبوعي لنادي القصة)، واتخذوا طريقهم إلي ميدان محطة السكة الحديدية (ميدان الجمهورية)، ليتفرقوا فيه، بعد مساء حافل، كل إلي بيته. من هذه المجموعة: مصطفي نصر، ومصطفي حامد جاد الكريم، وعبد الله هاشم، وسعيد بكر، وصبري أبو علم، وأنا، وآخرون تسربوا من شقوق الزمن. وبالمصادفة البحتة، ظل صبري ومصطفي حامد يسيران معاً، يعتقد كلٌّ منهما أن زميله يجامله بالسير معه حتي يصل إلي بيته، فيتركه، حتي وصلا فعلاً إلي بيت، قال مصطفي: هنا أسكن. وقال صبري: وأنا أيضاً. وكان مصطفي ابن مالك العقار، وصبري يسكن في شقة بالطابق الأرضي، وبين الأسرتين مودة، والإبنان لا يعرفان أحدهما الآخر ! كنا نتقارب في السن، حول السادسة عشرة، وإن كان صبري يكبرنا بسنوات قليلة، وكان عسر الحظ في الدراسة، فتعثر لسنوات، الأمر الذي دفعه إلي الالتحاق بالقوات البحرية، فانتقل مع أمه إلي الإسكندرية، بعد وفاة أبيه؛ وكانت الأسرة تقيم في طهطا. إنها ذكريات خمسين سنة، تتلاحق وتتقافز في أركان ذاكرتي بعد انتهاء الرحلة بالنسبة لصبري، إذ رأي أن يتخذ لرحلته مساراً آخر، يذهب به إلي بعيد. اختلفتُ مع صبري أكثر من مرة، وكنا نلتقي أثناء الخلافات، وكأننا غير مختلفين، برغم أن حدة الخلاف تكون كبيرة أحياناً. لكن الخلافات كانت موضوعية، ويتخللها حوارات حولها، مباشرةً أو بالتليفونات؛ وكانت في معظمها ترجع إلي تباين الطباع، فأنا أكثر تحفظاً، برغم ادعائي غير ذلك في ما أكتب، وهو مقبل علي الحياة بلا أي حاجز (أو رادع، ربما)، كثير الحركة، وكان ذلك يمثل بعضاً من تلك الخلافات، فقد كنت أري أنه يخسر وقته في فضاءات الإسكندرية، بلا طائل - من وجهة نظري - وأن الأفضل أن يطيل الاختلاف إلي مكتبه ومكتبته، ليقرأ ويكتب أبحاثاً وشعراً، أو علي الأقل، يسجل سيرته، التي هي سيرة نصف قرن من عمر الحياة الثقافية، شهد خلاله الوطن أحدَّ تحولات مرت به، وكان هو مشاركاً بها، وشاهداً عليها، أو متابعاً لها، علي الأقل. ولا زلت حزيناً لأن صبري لم يترك سوي ديوانين صغيرين، وبضع مقالات متفرقة. وأحياناً أشعر بأنه كان علي حق، فأن (تعيش) الحياة أفضل من أن تكتبها، وكان صبري أبو علم حفيَّاً بالحياة، وكان مفتاحه إلي قلبها البساطة التي تقترب من مشاعر طفل، والصراحة الشديدة، التي كانت تثير الدهشة، وربما التقلقل، في بعض الأحيان. غير أنني لم أره أو أسمعه يكذب مرةً واحدة. رجل لم يكذب لنصف قرن، علي الأقل !. كان مسكن صبري في شارع الغرياني، بمحرم بك - قرب جراج ترام المدينة - في الطابق الأرضي من البناية، تصعد إليه بنحو عشر درجات سلمية؛ ويبدأ بممر علي جانبه الأيمن المطبخ، ثم دورة المياه، ويتسع الممرُّ إلي صالة شبه مربعة، يفتح فيها بابا ل حجرتين، واحدة لصبري، والأخري للسيدة والدته، التي لم أرها إلا جالسة في الصالة، وبجوارها طاولة صغيرة، عليها أدوات ولوازم الشاي. كانت تعد لنا الشاي أكثر من مرة، حسب طول السمر الليلي، ولم نكن نشعر بأنها تتعب، أو لم نفكر في ذلك، كما أنها - من ناحيتها - كانت طيبة كريمة صافية النفس، غاية ما يرضيها أن تسعد بسعادة (طفلها) الوحيد وهو بين أصدقائه الذين يحبهم ويحبونه، ويفتح لهم بيته، صالوناً أدبياً ثقافياً، سرعان ما اجتذب إليه عشرات من الأدباء والفنانين التشكيليين وعموم المثقفين. وكانت عند انتهائها من إعداد الشاي تدقُّ بالملعقة دقتين أو ثلاثة علي طرف الصينية المعدنية، فيقوم صبري ويخرج من حجرته الخاصة، محل الصالون، ليعود بالصينية، وأحياناً تكون مصحوبة ببعض المخبوزات البيتية. ولا تزال(دقات الصينية) محفورة في ذاكرتي حتي الآن، لأن الشاي والمخبوزات البيتية كانا يأتيان في وقت يكون الجوع قد تمكن منا، وقد أمضينا وقتا طويلا في حوارات حارة، (علي بطن خاوية)! كان ذلك الصالون عجيب الشأن. فنحن أمام أسرة صغيرة جداً، دخلها محدود جداً، وفضاؤها الحيوي في المسكن لا يتحمل استضافة أعداد تصل أحياناً لأكثر من خمسة في الليلة الواحدة، تقدم لهم ضرورات الضيافة، مهما كان تواضعها، أكثر من مرة. ومع ذلك لم يتوقف أحد أمام أي من هذه التفاصيل، بل كان ذلك الصالون (الذي يبدو فقيراً) غاية في الغني، وقد ارتاده، وتفاعل معه، وتأثر به عدد لا بأس به ممن طفوا علي سطح الحياة الثقافية والإبداعية في مصر، ومن السياسيين، ومن الصعاليك، أيضاً، فقد كان صبري، علي نحو ما، صعلوكاً نادراً. كان جانب كبير من رواد صالون صبري أدباء ومثقفين من الناشئة، وبعضهم حظي بخطوة في طريق النشر، كالشاعر الراحل عبد الصبور منير. لكننا كلنا كانت لنا تطلعات آخذة في التبلور والتميز، وقد وجدنا في الصالون ضالتنا لنلجأ إليه من أجل التواصل الفكري وتبادل القراءات والآراء حول بدايات كتاباتنا. وتخونني الذاكرة إن حاولتُ أن(أحصر) أسماء المترددين، بانتظام أو علي فترات؛ ولكني أتذكر أن صبري بأسلوبه السهل الممتنع، اجتذب عدداً من زملائنا طلاب المدرسة العباسية الثانوية، وكان بعضهم من جيرانه، فانضموا إلي الصالون. وكان صبري يتصرف كأنه طالب ثانوي مثلنا، وهو كذلك، إذ كان لا يزال يكرر محاولاته للنجاح في الثانوية العامة. وكنت أتعجب، كيف لفتيً علي هذه الدرجة من الألمعية وسعة الثقافة يعجز عن تحقيق ما يحققه طالب ضيق الأفق محدود الذكاء، فيحصل علي شهادة تذهب به إلي الجامعة. والحقيقة هي أن جانباً كبيرا من سبب هذه الورطة، التي كان صبري لا يعتبرها ورطة، ولا يميل للإشارة إليها، هو عدم توفير الاهتمام الكافي لتحقيقها. بدليل أنه عندما أعطاها قدراً يسيراً منه، بدافعٍ أو بآخر، حصل علي الثانوية العامة، والتحق بكلية الآداب ليدرس الأنثربولوجي، وهو لما يزل بعد مشتغلاً بالقوات البحرية، برتبة رقيب أو رقيب أول. وذات صيف، واتتنا فكرة تكوين(جمعية فلسفية)!. أقل من عشرة شبان تحت العشرين يقررون تأسيس جمعية فلسفية، بلغ بهم طموحهم، ولا أقول أبداً حماقتهم، لأن يسموها: "البحث عن الحقيقة" !. كانت الجمعية تجتمع في كافيتيريا صيفية في (لسان السلسلة)، أمام موقع مكتبة الإسكندرية الآن، كانت الجامعة تقيم سلسلة منها علي امتداد الشاطئ، ويعمل فيها طلابها صيفاً، وأنا شخصياً عملت جرسوناً فيها قبيل أن أنهي دراستي الجامعية. كان من بين الباحثين عن الحقيقة في تلك الجمعية: صبري، ومحمد السيد عيد، ومصطفي حامد جاد الكريم، ومحمد زهدي، وأسماء أخري تغيب عن ذاكرتي الشائخة الآن، وأنا. وكان الناس من حولنا يلعقون عبوات الآيس كريم، ولا يكفون عن شرب المثلجات، ونحن منهمكون في مناقشة تقديم الدكتور بدوي لترجمة كتاب لكامي. وكانت المناقشة لا تنتهي باستنفاد طاقتنا الحرارية، والإسراع إلي منازلنا للأكل والراحة، بل كنا نتواصل بتبادل الخطابات البريدية، تحمل أفكارنا، وإبداعاتنا، وآراءنا المتبادلة.