يعد ميخائيل كوزمين ( 1872 1936 ) واحدا من فرسان الشعر الروسي في القرن العشرين الذين انعكست في انتاجهم صورة مصر . وقد سبق لي تقديم دراسة بعنوان " مصر : حوار الثقافات في " أغاني سكندرية لميخائيل كوزمين في أعمال المؤتمر الدولي " صورة مصر في الأدب العالمي " الذي انعقد في أبريل ( 2012 ) وظهرت الدراسة في كتاب المؤتمر فيما بعد متضمنة ترجمة مقتطفات من » أغاني سكندرية» ، وقد أسعدني الشاعر الكبير فاروق شوشة بقراءة بعض هذه المقتطفات بصوته الرخيم ، واحساس الشاعر في برنامجه السابق الناجح » أمسية شعرية» ونقدم هنا - لأول مرة ترجمة النص الكامل " لأغاني سكندرية " . بداية سأقدم تمهيدا موجزا عن النص ،ويستطيع القاريء الرجوع لكتاب مؤتمر " صورة مصر في الأدب العالمي " لمزيد من الاقتراب من الشاعر والنص . ظهرت " أغاني سكندرية " في عام 1906 من وحي زيارة كوزمين إلي مصر وبتأثير من انطباعات الرحلة ،وقراءاته عن مصر ، ونالت شهرة وانتشارا في وقتها ، وذاع صيتها بعد أن لحنها كاتبها وغناها ، ومازالت " أغاني سكندرية" تمثل عملا ً محوريا ً في تجربة كوزمين الشعرية. السمة الحوارية لثقافة مصر وتاريخها كانت الملمح الذي التقطه الشاعركوزمين وجسده في "أغاني سكندرية " من خلال الصورة المحورية للإسكندرية عاصمة مصر في الفترة البطلمية, وهي المدينة التي أحبها كوزمين بدرجة جعلت معاصروه يلقبونه " بالسكندري القديم ". تتألف " أغاني سكندرية " من اثنتين وثلاثين قصيدة مقسمة الي سبعة أجزاء غير متساوية ، يحمل كل جزء عنوانا فرعيا : ( مفتتح ،الحب ، هي ،حكمة، مقتطفات ، أغاني كانوب ، خاتمة ) . في الجزء الأول بعنوان " مفتتح " يستهل كوزمين الحديث عن الاسكندرية في القصيدة الأولي بالتأكيد علي ثلاث صفات يتمثلها في صورة الاسكندرية : البركة والحكمة والعظمة ، وذلك من خلال تكرار المفردة " ثلاث" . واختيار هذه الصفات في وصف الاسكندرية يعكس تقديرا من جانب كوزمين لمكانتها الدينية ،والتاريخية ، والثقافية ، وللدور الحضاري الذي لعبته مكتبتها الشهيرة ، خاصة ، في الفترة الهلينستية . تعكس " أغاني سكندرية " ملمحا من منهج كوزمين في رسم صورة مصر , الا هو ادراج الرموز والعلامات الثقافية المرتبطة بعصور زمنية من تاريخ الاسكندرية وخاصة الفرعوني ، الاغريقي ، الروماني ، المعاصر " والتي تعكس خليط الثقافات والأزمنة في تاريخ مصر من خلال عاصمتها القديمة الاسكندرية . وتختلط هذه الصورة بالغنائي والعاطفي . يرسم كوزمين بعض ملامح الاسكندرية المعاصرة أثناء زيارته لها في نهاية القرن التاسع عشر : بعض ملامح المكان ، ومظاهر الطبيعة ،وصورة الراقصة التي ترقص بالعصا وكلمة "العصا" تكتب بالروسية بنطقها بالعربية وبين أقواس ، وكذلك صورة البحارة السكاري وبائعات الزهور، وغيرها، وتمتزج هذه الصورة بالغنائي العاطفي ص وبصورة الحبيبة . يندرج التاريخي في متن " أغاني سكندرية " من خلال رموز الثقافات المختلفة التي وردت علي الاسكندرية ، وكذلك من خلال بعض المضامين المرتبطة بالشخصيات التاريخية . وهذه الرموز لا تجسد في اطار تعاقبها الزمني ،بل تتقاطع وتمتزج في اطار رؤية الشاعر للاسكندرية : خليط الثقافات . تطالعنا في القصائد صورة فنار الاسكندرية الشهير ،ويونونا " الهة الزواج والامومة في الاساطير الرومانية ص وصورة الشاعر السكندري القديم كاليماخ ( 240 310 ق.م ) الذي ترأس مكتبة الاسكندرية ،هرم خوفو ، ومنقرع ، والنيل المقدس ، و"أنطينوس" الذي القي بنفسه مضحيا من أجل قائده الامبراطور الروماني آدريان ،الذي خلد أنطينوس باقامة العديد من التماثيل والنصب التذكارية له ، وبينلوبا زوجة أوديسيوس في أوديسة هوميروس ،وديونيس اله النمو وقوي الطبيعة عند الإغريق . الرموز والعلامات الفرعونية والاغريقية والرومانية كثيرة بين جزئيات قصائد "اغاني سكندرية" أدونيس ، وافروديتا ، وكليوباترا ،وكيبريدا , والاهرامات , رع اله الشمس , وبتاح اله مدينة ممفيس ، وهاتور اله الحب والمرح والموسيقي ، والمدينة الفرعونية القديمة كانوب ، وهليوبوليس , وايزيس وغيرها . " اغاني سكندرية " تحمل أيضا جانبا من معاناة الشاعر الذاتية ،وتأملاته في الحب ، والموت ،وقيمة الكلمة الشعرية ، ومغزي الحياة . كتبت " اغاني سكندرية " في شكل القصيد الحر , وفي اسلوب يتسم بالبساطة المستعصية , بساطة يشوبها شيء من الغرابة ، والغموض نتيجة لاستخدام المفردات الجديدة ، وادراج رموز ثقافية حضارية معبر عنها بشكل مقتصد ،أما موسيقي القصائد فقد اعتمدت علي نحو كبير علي التكرار والتوازيات . وقد استخدم كوزمين منهج الخلط بين الرموز الثقافية المختلفة داخل بناء القصيدة الواحدة للتعبير عن امتزاج الثقافات المختلفة وحوارها في تاريخ مصر .