نحن الآن في يوم 7 يناير سنة 1946م، حيث نشعر جميعا بحدث كبير تشهده القاهرة، وتحتفي به الديار المصرية كلها، نعم، إنه احتفال كبير بحدث كبير ومهم، وهو زيارة الملك عبد العزيز إلي مصر، تلك الزيارة التي وصفها الملك فاروق حينئذ بأنها زيارة تاريخية تمثل الفجر الصادق للعروبة، وأصدر مجلس الوزراء المصري تعليماته لكافة الوزارات والهيئات المصرية بالتعاون في اتخاذ كافة التدابير اللازمة التي تخص استقبال العاهل السعودي، وفي إطار ذلك قررت وزارة الأشغال وقتها إطلاق اسم الملك عبد العزيز علي شارع النيل بقسم مصر القديمة بمدينة القاهرة، وتضمن برنامج زيارة ضيف مصر الكبير زيارته لقصر عابدين بكل ما يمثله من قيمة تاريخية عظيمة، وزار أيضا مجلس النواب، وزار جامعة الدول العربية، وزار الجامع الأزهر الشريف، والمؤسسات المصرية العريقة الأخري، وأدي صلاة الجمعة أيضا في الأزهر الشريف برفقة الملك فاروق، وألقي خطبة الجمعة فضيلة الإمام الأكبر الشيخ مصطفي عبد الرازق شيخ الأزهر الشريف آنذاك، وأصدر الملكان بيانا ألقاه النقراشي باشا رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت، وقد أكد البيان علي إيمان الدولتين بأن فلسطين دولة عربية، ومن حق أهلها وحق المسلمين والعرب معهم أن تبقي عربية كما كانت، وأصدرت هيئة البريد المصرية طابعا بريديا تذكاريا يوثق هذه الزيارة ويبقيها للتاريخ، وقد سلطت الصحف المصرية والسعودية الأضواء علي قيمة هذه الزيارة، وأوصي الملك عبد العزيز شعبه ورجاله بمصر، وأوصاهم بالحرص علي قوتها ومكانتها الكبري. وقد أعد الصحفي الأستاذ مشاري الذايدي حلقة مهمة في برنامجه (مرايا) الذي يبث علي قناة العربية، عنوانها (السعودية ومصر وعهد التاريخ)، جمع فيه الوثائق والفيديوهات التي توثق تلك الزيارات التاريخية، والحلقة متوافرة وأنصح بمشاهدتها. ثم يقفز بنا التاريخ إلي الدور العظيم الذي لعبته المملكة العربية السعودية في حرب أكتوبر 1973م، فكعادتها وقفت المملكة العربية السعودية مع شقيقتها مصر في حرب أكتوبر وقفة تاريخية، ففي 17 أكتوبر قرر الملك فيصل أن يستخدم سلاح البترول في المعركة، فدعا إلي اجتماع وزراء البترول العرب (الأوابك) في الكويت، وقرروا تخفيض الإنتاج الكلي العربي بنسبة 5% فورًا، وتخفيض 5% من الإنتاج كل شهر، حتي تنسحب إسرائيل إلي خطوط ما قبل يونيو 1967م، وقررت ست دول بترولية من الأوبك رفع سعر بترولها بنسبة 70%، وقررت بعض الدول العربية حظر تصدير البترول كلية إلي الدول التي يثبت تأييدها لإسرائيل بما فيها الولاياتالمتحدة، واستدعي الملك فيصل السفير الأمريكي في السعودية، وأبلغه رسالة للرئيس نيكسون تحتوي علي ثلاث نقاط؛ وهي: إذا استمرت الولاياتالمتحدة في مساندة إسرائيل، فإن مستقبل العلاقات السعودية الأمريكية سوف تتعرض لإعادة النظر، وأن السعودية سوف تخفض إنتاجها بنسبة 10% وليس فقط 5% كما قرر وزراء البترول العرب، وتمضي بنا الأحداث العصيبة التي تزيد روابط الأخوين بين البلدين الشقيقين، حتي يتم النصر المبين في حرب أكتوبر، ويزور الملك فيصل بن عبدالعزيز أرض الكنانة مصر العظيمة بعد النصر، وطاف موكبه في عدد من المدن المصرية في استقبال شعبي بهيج، وقد رفعت رايات ترحيب كان من ضمنها لافتة (مرحبًا ببطل معركة العبور السادات وبطل معركة البترول فيصل). وقد صدرت عشرات الكتب والبحوث والمقالات التي تروي تفاصيل هذه الملحمة المصرية السعودية كان منها تقرير أصدرته سفارة المملكة العربية السعودية في القاهرة، يشتمل علي رصد تاريخي يمثل جزءا من ذاكرتنا الوطنية والعربية التي لا يمكن أن تذوب أو تنفصم. وتمضي هذه المسيرة التاريخية بين البلدين، مرورا بحلقات مفصلية مهمة، تنسج في كل مرحلة تاريخية ركنا جديدا لهذه العلاقة والأخوة، التي أثبتت للتاريخ أن كلا البلدين الشقيقين صمام أمان للآخر، حتي نصل إلي الوقفة التاريخية الشجاعة والجسورة التي وقفها الراحل والفقيد الكبير الملك عبد الله بن عبد العزيز مع مصر، في منعطف بالغ الحرج والخطورة، فكان فيه سندا جليلا لأرض الكنانة، وقد تعددت الصور التي أعرب فيها فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي عن امتنان مصر لهذه الوقفة التي لا تُستغرب من المملكة بجوار مصر. وقد استحضرت في ذاكرتي هذا التاريخ الممتد، في ظل حدث بذل فيه الإخوان المسلمون جهودا خارقة لإحداث وقيعة بين البلدين الشقيقين بسبب مؤتمر الشيشان (من هم أهل السنة والجماعة)، وعقد الإخوان ورشة عمل خرجوا فيها باستراتيجية ذات خطوات متعاقبة، وأمواج متتالية، لتشويه المؤتمر، والترويج كذبا إلي أنه يمثل إضرارا بالمملكة العربية السعودية، مع حملات مدروسة وواسعة النطاق علي السوشيال ميديا، وسيل من المقالات والتحليلات والتكهنات، والتصريحات المسمومة من شخصيات كثيرة هنا وهناك، وقد ابتلع الطعم بالفعل عدد من الشخصيات في مواقع مختلفة، إلي أن جاء بيان هيئة كبار العلماء بالمملكة بيانا عاقلا يلمح من بعد إلي الإخوان، حيث حذر من النفخ فيما يشتت الأمة، ويؤكد أن الوقت ليس وقت تلاوم وعلينا أن نكون أكثر حذرا ممن لا يريدون بهذه الأمة خيرا، ويراهنون علي تحويل أزماتنا إلي صراعات وفتن سياسية ومذهبية وحزبية وطائفية. وأقول للإخوان المسلمين ستفشلون في إحداث الوقيعة، والمؤتمر المهم الذي انعقد في الشيشان لا يحمل أدني كيد ولا ضرر بالمملكة العربية السعودية، وكفاكم تأولا وتكهنا وتشويها للمؤتمر وأهدافه، ومحاولة تصويره علي أنه مؤامرة علي السعودية، وإن مصر العظيمة وكل عاقل ليحرصون كل الحرص علي أمن المملكة واستقرارها، وسوف نكشف من خلال مرصد إعلامي موثق كل الخطوات المذهلة التي سلكوها لإحداث الوقيعة بيننا، والانتقام من المملكة لموقفها المشرف مع مصر بعد سقوط الإخوان وزوالهم، وستبقي مصر والسعودية رغم كل تلك المؤامرات، ويزول الإخوان وسلام علي الصادقين.