رجع لتوه إلي المنزل يزفّ بشري نجاحه وانتقاله إلي السنة النهائية من التعليم الثانوي .كان الطقس حارا، إنّه شهر جوان، كعادته و في كلّ عطلة صيفية سيساعد أباه بالعمل في دكّان الخضار، فهو لبق في استقبال الحرفاء يملك خبرة واسعة في التعامل معهم بلطف ومودّة، فيبيع بضاعته من خضر وغلال بكلّ يسر، معتمدا ّ علي دماثة أخلاقه ومعسول كلامه، خاصّة مع الحريفات. فالشاب فارس شخصية محبوبة، أنيق،يتّقد حيويّة ونشاطا،يساعده في ذلك بنية جسديّة متناسقة، و وسامة آسرة مع شباب دافق، مبطّن ببعض الخجل. كان عمل فارس في دكّان أبيه، يتمثّل في ترصيف الغلال وتنظيم الخضر، وإذا غاب أبوه، يحلّ محلّه في البيع، كما أنه في بعض الأحيان يقوم بإيصال المشتريات إلي منازل أصحابها وخاصّة الميسورين منهم،فيجزون له العطاء، ففارس ووالده يعرفان سكّان الحيّ معرفة جيّدة. في يوم أقبلت إلي الدكّان امرأة في مقتبل العمر، تحمل في حضنها صبيّا، وبيمناها قفّة، كان جمالها لافتا، وثيابها شافّة تصف ما فاض من تضاريس جسدها الفائر أنوثة وشبابا . ألقت التحيّة بكلّ أدب وحشمة، وضعت الطفل من حضنها،وأخذت تنتقي الغلال والخضر بكلّ عناية ودلال، ووالد فارس يبالغ في التّرحاب بها ويحاول إرشادها لأفضل وأحسن الغلال وهي تتضاحك وتشكره بكلّ امتنان،أخذت حاجتها وحملت ابنها وانصرفت مسلّمة بعد أن دفعت المعلوم دون أدني جدال، بقي فارس فاغرا فاه لا يصدّق عينيه، متسائلا في قرارة نفسه، كيف لا يعرف هاته الغادة الفاتنة التّي تقطن حيّهم؟ سأل والده: من تكون هذه المرأة ؟ لم أرها من قبل في حيّنا. ردّ أبوه بحزن مصطنع: إنها مسكينة، لقد مات زوجها من ستّة شهور، فانتقلت للعيش مع أخيها المحامي، لكنّ لم تتفق طباعها مع طباع زوجة أخيها وكثر التشاجر، والخلافات بينهما، فاضطرّ أخوها المحامي أن يكتري لها منزلا في حيّنا، فهو يرعاها هي وابنها ويقضي حوائجها، جازاه الله كلّ خير. استغرب فارس من كلّ هذه التفاصيل التّي يعلمها والده، ولكنّه لم يهتم ّللأمر، ولم يشأ أن يحرج أبوه بالسؤال. أصبحت هادية الأرملة تتردد كثيرا علي الدكّان، تختار الأوقات التّي لا يكون فيها والد فارس موجودا، فتأتي في كامل زينتها وتختلق المواضيع لتجرّ فارس للحديث وهو يشجّعها ويمهّد لذلك. في مرّة طلبت منه بكلّ ودّ أن يوصل لها مشترياتها إلي البيت،بداعي ثقلها مع ولدها الذي تحمله في حضنها. أصبح فارس يرافقها إلي البيت لحمل أغراضها كلّما أتت لتتبضّع من الدكّان، وفي الطريق تشكو له وحدتها ومرارة العيش دون رفيق أو صديق، في مرّة دعته للدخول ليستريح من عناء الطريق ويتناول معها قهوة المساء. توطّدت علا قة فارس بهادية وتحولت إلي حب جارف، وهيام لا حدّ له،وأصبح يزورها في بيتها ويختلي بها كلّما سنحت الفرصة وأفلت من عيون الفضوليين،معلّلا تأخره أو حتّي غيابه لوالديه، مرّة بالسهر مع أصدقاء الدراسة وتارة بالذهاب إلي المدينة. أصبحت هادية لا تطيق فراق فارس فقد أطفا ظمأها العاطفي، وأشبع غريزتها المتوقّدة، فأغدقت عليه الهدايا ولبّت كلّ احتياجاته المادية، ممّا أثار استغرابه فسألها مرّة: من أين لك بكلّ هذا المال؟. فقالت متضاحكة: ألا تعلم أنّ أخي محامي ميسور الحال؟ وأنا أخته الوحيدة ؟، فهو لا يتركني أحتاج إلي أيّ شئ. في أول أيّام الخريف التّي بدأت تصارع حرارة الصيف وتنشر نسائمها مساء، وفي غياب والد فارس عن الدكّان، أقبلت هادية تتباكي وتتظاهر بالحزن الشديد مع مسحة من اليأس رسمتها علي وجهها قائلة: آن الأوان يا عزيزي لنقطع علاقتنا، لقد خطبني رجل ميسور من أخي فوافق. فأرجوك يا فارس أن تتركني وشأني ولا تحاول الاتصال بي، حتّي لا تفسد زواجي، فأربّي هذا اليتيم في أحسن الظروف. ثمّ تركته ورحلت. بقي فارس مسمّرا في مكانه، لا يصدّق ما سمعت أذناه، وصدي صوت هادية يتردّد في أرجاء رأسه" أرجوك يا فارس أن تتركني وشأني ولا تحاول الاتصال بي" أصبحت هذه الجملة تتردّد في جنبات الدكّان، تطرق رأسه، أغمض عينيه، أقفل أذنيه بسبّابتيه، ضرب رأسه بكلتا يديه، الجملة تحفرعميقا في وجدانه فتعتصر قلبه، ثمّ قرّر غلق الدكّان والعودة إلي البيت. لازم فارس الفراش ثلاثة ايّام محموما، خائر القوي، مضربا عن الطعام وعن الكلام، في اليوم الرابع إلتمعت فكرة في رأسه فقرّر الذهاب إلي هادية. عندما خيّم الظلام علي الحيّ وتأكد فارس من خلو الطريق المؤدي لمنزل هادية، تسلّل كعادته، طرق الباب، أدخلته هادية بسرعة، مظهرة نوعا من التبرّم، مذكّرة إيّاه بتركها وشأنها وعدم الاتّصال بها . فقال لها: جئت فقط،لأقول لك،إني أحبّك ولن أتخلّي عنك، وسأخطبك وأتزوجك، ثمّ أردف بانفعال مهدّدا إياها: لن أتركك لغيري مهما كان الثمن، حتّي لو اضطررت لإفشاء علاقتنا لأهل الحي ولأخيك، ولكلّ من يفكّر في الإقتران بك .ثمّ تركها وغادر مسرعا. بقيت هادية حائرة، تلعن الظروف التّي عرّفتها بهذا المراهق المجنون، فكّرت في الإبتعاد عن الحيّ و الذهاب للسكن في مكان آخر، لكنّها تعلم أن فارس لن يتركها تنعم بحياة هادئة. فاستقرّ رأيها بعد تفكير طويل،علي أن تتخلّص منه نهائيا. فعقدت العزم علي قتله، وإلقاء جثّته في البئر المهجور الموجود بأطراف حديقة بيتها. بعد يومين ارتدت هادية أحسن ثيابها، تبرّجت وتعطّرت، أخذت ابنها وذهبت إلي الدكّان . وجدت فارس ووالده، تظاهرت بشراء بعض الغلال، غافلت الأب، ودسّت في يد فارس ورقة صغيرة. ثمّ أخذت أغراضها وغادرت. قرأ الورقة بلهفة دون أن يلفت انتباه الأب، "عزيزي لقد اشتقت إليك. لابدّ أن تحضر الليلة". كاد أن يطير من الفرح، أراد أن يصرخ أن يضحك، أن يلحق بهادية ويضمّها بعنف، ولكنّه كتم فرحته حتّي لا يشعر أبوه بشئ. آخر النهار عاد إلي البيت اغتسل تعطّر لبس أحسن ما يملك من ثياب واوهم أمه، أنه سيتعشّي مع صديقه و أنه قد يقضي الليلة عنده، وخرج لا يلوي علي شئ. استقبلته هادية بكل ّ ترحاب، وجدها قد طبخت الطعام الذّي يحبّه، دعته للعشاء، بدأ يبثّ لها أشواقه، وأنّه كاد يجن لمّا تركته،وأنّه كاد يتهوّر ويذهب لخطبتها من أخيها . فضحكت هادية بكلّ غنج ودلال قائلة: أعلم أنّك مجنون .ثمّ استأذنت لتحضر الشاي من المطبخ . كانت هادية قد اشترت نوعا من السمّ لا طعم له ولا رائحة . عزمت علي مزجه في كوب الشاي الذّي سوف تقدّمه لفارس، وضعت هادية كوبين علي طبق جميل مستدير، أخرجت من ثيابها كيسا صغيرا، سكبت محتواه في أحد الكوبين، ثمّ بسرعة صبّت الشاي. أراد فارس أن يلحق بهادية ليخطف منها قبلة عن حين غفلة وهي منهمكة في تحضير الشاي. فذهب إلي المطبخ علي أطراف أصابعه ليفاجئها، أحسّت هادية بحركة غريبة وراءها فاستدارت بسرعة فزعة، فأدارت بمأخّرتها الطبق نصف دورة دون أن تشعر، وقالت بكلّ هدوء حتّي لا يتفطّن لارتباكها: آه، يا شقي ألا تنتظر لآخر السهرة؟ لن أطير منك . ثمّ قدّمت له كوب الشاي متمنّية أن يموت دون عذاب، مشجّعة إيّاه بشربها لكامل كوبها،قائلة:هيّا أكمله للآخرلأزيدك. بعد السهرة، ذهبا لغرفة النوم، وعندها لاحظ فارس ساعة جيب أبيه الذهبيّة علي الطاولة الصغيرة، فتحها ليتأكّد، فوجد صورة أبيه كما كان يعتقد، سألها عن سبب وجود ساعة أبيه، فأجابت وهي تخفي إحراجها: يا غيّور، لقد وجدتها في قعر القفّة، عندما عدت اليوم من دكّان أبيك، وسوف أردّها له غدا. كتم فارس هواجسه، ولم يشأ إفساد اللّقاء بمزيد الأسئلة عن وجود الساعة، وخاصّة في مكان مميّز في صدر غرفة النوم. مع شروق الشمس، أفاق فارس علي صوت بكاء ابن هادية، فحاول إيقاظها، لكنّه وجدها جثّة هامدة لا حياة فيها، صعق من هول المفاجئة، لم يدر ماذا يفعل شلّ تفكيره، فلبس ثيابه علي عجل وغادر بحذر حتّي لايراه أجد. وفي مساء ذلك اليوم حضرت فرقة من الشرطة واعتقلت والد فارس بتهمة قتل هادية.