دائمًا ما يحدثنا أصحاب الدعوات الإسلامية عن أعداء للإسلام والمسلمين من الأمم الأخري، لكننا لم نسمع من يحدثنا عن العدو الأول للإسلام والمسلمين.. ألا وهو الفقر.. الذي هو وسيلة الشيطان لإفساد الإنسان، »الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» ولأنه وسيلة الشيطان لإفساد البشر حتي يصل بهم إلي الكفر، فمن الطبيعي أن يتعوذ منه النبي »اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر». الفقر أساس كل المفاسد وقد أثبت علماء الاجتماع أن هناك علاقة بين تقدير الذات وبين العمل وتكوين الثروة وامتلاك المال، بينما الفقر يأتي بالكفر وبكل المفاسد الأخلاقية السلوكية، ولا عجب أن يروي عن سول الله »كاد الفقر أن يكون كفرًا» رواه البيهقي في الشعب، وكان علي بن أبي طالب يقول: »لو كان الفقر رجلاً لقتلته»، وقد كان النبي يدعو لنفسه »اللهم إني أسألك الهدي والتقي والعفاف والغني»، وكان يعلم أصحابه قيمة المال فيقول: »نعم المال الصالح للرجل الصالح». وقد دعا النبي لخادمه أنس بالغني »اللهم كثر ماله وولده » فلم يمت إلا وهو من الأغنياء، بل يجعل أكثر ذنب ألا تنفق علي عيالك »كفي بالمرء إثماً أن يضيع من يعول»، وهذا نبي الله سليمان عليه السلام يطلب ملكًا لم يؤته أحد من بعده »قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ». ثقافة الكفاح عرفناها في القرآن بمعني السعي، ومادة سعي وردت في القرآن الكريم 30 مرة في ثلاثين آية، معظمها يرتبط بالإنسان ونشاطه في الحياة بالمعني الاقتصادي في طلب الرزق والبحث عن مصادر الدخل، لكن الشيء الذي يفجر بداخلك الأمل ويدفعك للسعي والكفاح أكثر وأكثر أن أغلب هذه الآيات تربط السعي بالرزق ربطًا يجعلك تطمئن تمامًا أن رزقك مضمون بأمر رب العالمين ومالك الكون.. »وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَي * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَي * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَي»، والآية تربط الرزق بالسعي »ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَي». السعي علي الرزق يلاحظ أيضًا أن بعض آيات السعي تأتي بعد عبادة من العبادات كما في آية الجمعة »فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»، وذلك حتي لا نكتفي بالعبادة وحدها ونخلد للراحة حتي لو كان يوم الجمعة، فجاء السعي للصلاة واستكمل السعي بكلمات مرادفة للسعي »فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ»، أي أن السعي للصلاة ومعه السعي للعمل. »فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ»، المشي أقل درجة من السعي لكنك عندما تضيف كلمة في مناكبها، أي من أقصاها لأقصاها، فهو بذلك في درجة السعي وأكثر، لأن المنكب في اللغة هو الكتف، ولك بذلك أن تتخيل أن القرآن يطلب منك أن تأخذ الدنيا من أكتافها.. إنها عملية تشبه لمس الأكتاف في المصارعة، وعندها فالرزق مضمون تمامًا »وَكُلُوا مِن رِّزْقِه». »فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ» والابتغاء لغويًا هو أحد معاني كلمة السعي، وبالتالي فإن المفهوم المشهور للآية أن ابتغاء الرزق يكون بالدعاء والذكر والعبادة فقط يعتبر مفهومًا خاطئًا، فابتغاء الرزق أي السعي للرزق وبالتالي فلا رزق بلا سعي، والعكس صحيح فإن السعي يضمن الرزق الواسع لقوله »عِندَ اللَّهِ الرِّزْق». قانون الإرادة والإتيان هناك قانون يسمي قانون الإرادة والإتيان، وهو أنك ستأخذ بقدر ما تريد وليس بقدر ما تتمني، الإرادة تحول الأمنيات إلي واقع ملموس.. لن تحصل علي شيء علي قدر ما تملك من إمكانيات فقط ولكن علي قدر ما تملك من إرادة. جميع قصص الناجحين مثل هنري نستله وجيوفاني كازيللي مخترع الفاكس وغاندي ومانديلا وغيرهم الكثير.. كانت المعادلة لديهم معادلة إرادة وليس إمكانيات وعلاقات فقط.. كانت لديهم عشرات الأسباب للتوقف ولكنهم جعلوها أسبابا للاستمرار وذلك بتحقيق معادلة الإرادة. يقول الله تعالي »مَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا * وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ».. فلابد من الإتيان مع الإرادة.. فقد نكون أنا وأنت نملك نفس الإمكانيات والحلم ولكن ليست نفس الإرادة.. فأنا تقاعست مع أول محطة ألم وبحثت عن حلم آخر.. وأنت استمررت لأنك تملك من الإرادة ما يسمح لك بتحمل صعاب وعقبات هذا الحلم.. وهنا نثبت للجميع أن الإرادة مرتبطة ارتباطا مباشرا ووثيقا بمدي وعيك بنفسك وثقتك فيها. لماذا هاجر النبي إلي المدينة بالذات؟.. لأنها مجتمع منتج.. مجتمع زراعي منتج.. والنبي كان يبحث عن مجتمع منتج وليس يعيش علي الموارد التي عنده دون جهد أو عمل، مع ذلك لم يحول اسمها وهو نبي الإسلام إلي اسم ديني مثل »المحمدية أو الإسلامية» ولم يرفع يافطة دينية.. لكنه حولها إلي اسم مدني.. المدينة من المدنية أي العمل والإنتاج والانطلاق نحو الحضارة. العمل في القرآن وردت كلمة العمل في القرآن الكريم (371) موضعا بأكثر من صفة، فمثلا جاءت لفظة (عَمِلَ) 19 مرة. وجاءت لفظة (عملوا) 73 مرة. وجاءت لفظة (تعملون) 83 مرة، وجاءت لفظة (يعملون) 56 مرة. وجاءت لفظة (أعمالهم) 27 مرة. هذا غير يصنع - اصنع - يصنعون. في حين إن الإشارات إلي الصلاة ومشتقاتها في القرآن الكريم تقارب المائة، وفي أغلبها ذكرت الصلاة مقرونة بالزكاة، ومعني هذا أن إشارات القرآن إلي العمل أضعاف إشاراته إلي الصلاة، وهذا لا يقلل من قيمة الصلاة ولكن يؤكد مدي ارتكاز هذا الدين علي قضية العمل وأثرها في تفعيل دور الدين في الحياة.. من هنا، فإنه يجب أن نعيد قراءة كل آيات العمل في القرآن بوصفها دعوة للإنتاج وللإعمار والبناء وليس بوصفها فقط شعائر تعبدية من صلاة وصيام، لابد أن نعيد قراءة القرآن من منطلق أنه كتاب معد للإنسان الذي سيعمل لتعمير الكون.. »أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ»، نحن خلقنا لإعمار الأرض وفي المقابل وهبنا الله أعمارنا لنقوم بهذه المهمة. ولن يكون مصادفة أن يكون الحوار مع الطرف الآخر الذين لم يذهبوا إلي »دار المقامة» متضمنًا تلك العبارة »أو لم نعمركم»؟.. وبين الأعمار الذي هو طول »العمر»، والإعمار الذي هو عمارة الأرض علاقة وثيقة، فالثاني هو ما نفعله، والأول هو ما تمنحه لنا المشيئة الإلهية... والاثنان يرتبطان بشبه معادلة محكومة: الأعمار مقابل الإعمار.. إعمار الله لنا في الأرض مقابل أعمارنا لها.. طول أعمارنا في الأرض هدفه إعطاؤنا فرصة لإعمار الأرض.