بفضل من الله ومِنّة، لا نزال نتقلّب في هذه الأيام المباركة، التي عظّم الله شأنها ورفع مكانتها، ألا وهي عشر ذي الحجة،التي أقسم الله تعالي بها ( وَالْفَجْرِ (*) وَلَيَالٍ عَشْرٍ ) أقسم بها سبحانه وتعالي لشرفها وفضلها، هذه العشرُ العملُ فيها ليس كالعمل في غيرها، بدليل حديث الحبيب عليه وآله أفضل الصلاة وأتم التسليم : » ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلي الله من الأيام العشر - يعني عشر ذي الحجة - قالوا ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشئ ». لقد خصّ الله هذه الأيام العظيمة بيوم عظيم المنزلة، ألا وهو يوم عرفة، وهو يوم أقسم الله به - وسأتحدث عن هذا اليوم المشهود في مقالي القادم بعون الله إذا كنت من شهوده، والذي من المفترض أن يكون يوم الأحد القادم أعاد علي الأمة كلها هذه الأيام المباركة، وهي في خير ويُمن وبركة وسلام، وأعادها علي الأراضي كلها وقد عمّها السلام، وزال عن وجهها الفساد والطغيان، وباد أهل الظُلم والفُحش، وتجار الدين وسماسرة الحروب والفتن، ما ظهر منها وما بطن،أولئك الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، ونسوا ما حذرهم منهم رسول الرحمة والإنسانية » لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض » وقبل ذلك نسوّا تحذير ربِّ العالمين : (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ) سورة الإسراء 33، واليوم وقد ظهر ما حذّر منه الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ؛ فكَثُر القتل والاقتتال، وأصبح هناك البعض ممن جعلوا من ذلك الفسق هواية وديدناً- ولللأسف تحت شعار الدين !!- وكأنهم لم يسمعوا قول الله تعالي : (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ) سورة النساء 93. ولعلنا ونحن في هذه الأيام المباركة، والنفوس تقترب أكثر من ربها في مثلها.. علينا التنادي والتذكير بحرمة الدماء، التي شدد ديننا العظيم علي حرمتها وحرمة غصب الأموال وسرقتها، سواء كانت أموالاً عامةً أو خاصةً، خاصةً بعدما استشري الفساد في البر والبحر وانتشر في جنبات أمتنا وصار لجبهتها عاراً وفيها وصمةً. والمجتمعات لا تصلح بسفك الدماء أو بالانشقاقات والرياء، ولا بالمنازعات والبغضاء، وإنما تصلُح بعقيدة الإسلام التي تدعو لحفظ الضرورات الخمس، من الحفاظ علي النفوس والعقول والأموال والأعراض والدماء. فهي عقيدةٌ لا أقول تحترم المسلم وحده، بل الإنسان في كل زمان ومكان، وتحفظ كيانه وتحقنُ دمه،بل وترفع هذه العقيدة للدين الخاتم شعار الإحسان، ليس مع الإنسان فقط، ولكن مع النباتات والحيوانات قبل أن يعرف العالم هيئات الحفاظ علي البيئة وما يُسمّي بحقوق الإنسان، والرفق بالحيوان. كثير من الأمم والشعوب.. كانت وستبقي دائماً في حاجة إلي مرشدين ورواد في الفكر تجيء بهم الأيام وتذهب، وكثير من أولئك فشلوا وضل سعيهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وكثيرٌ من دساتير الأرض كُتبت ومُحيت.. وسادت حيناً ثم بادت، لأنها من وضع البشر ونتاج عقولٍ لا ترقي إلي الكمال، بل ترقي إليها الشبهات وتلفّها الشكوك وعدم الاكتمال، بينما أهدانا الله دستوراً سماوياً خالداً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يقول عنه المبعوث رحمةً للعالمين عليه صلوات الله وملائكته وسلام الناس أجمعين : » ألا إنها ستكون فتنةً، فقلت : ما المخرج منها يارسول الله ؟ قال : كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغي الهدي في غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء.. » صدقت ياسيدي يارسول الله، إنه لا يَخلَقُ علي كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجنُّ إذ سمعته حتي قالوا : إنا سمعنا قرآناً عجبا.. نعم ما أحرانا أن نُذكّر في هذه الأيام الفضيلة بكل ما يشُدّنا إلي الله، وبكل ما يعيدنا إلي ربنا لنكون بحق خير أمة أخرجت للناس، ولنظل بصدق علي دربه سائرين ولوجه الكريم قاصدين.. وفي المحبة والسلام راغبين.