لم يكن التوغل العسكري التركي في سوريا مفاجئاً لمراقبي الصراع المستعر في بلاد الشام علي مدار أكثر من خمس سنوات، بل إنه كان من المفترض حدوثه صيف العام الماضي، لمواجهة الانتصارات المتتالية التي حققتها وحدات حماية الشعب التركي PYD علي ميليشيات ما يُعرف بتنظيم (داعش)، في بلدتي كوباني وتل أبيض، لا سيما بعد السيطرة علي تلك الأخيرة التي كانت أحد أهم معاقل التنظيم الإرهابي، حيث كان الأكراد بذلك أقرب من حبل الوريد لتحقيق حلم إقامة دولة مستقلة انطلاقاً من 3 مدن هي: كوباني-عفرين-جزيرة. يأتي التدخل العسكري التركي متمثلاً في نشر 18 ألف جندي علي مساحة من الأراضي السورية بطول 100كم وعرض 30كم، علماً بأن تلك المساحة تقع بين مدينتي كوباني وماريا وتُطلق عليها الصحف التركية »خط ماريا». حتي الآن لقي جندي مصرعه وأصيب اثنان آخران إثر استهداف دبابة في مدينة جرابلوس التي تشكل محور التدخل العسكري التركي، وهو ما يحقق رؤية متشائمة تحدث عنها جنرالات سابقون في جيش أنقرة، مفادها أن »التدخل العسكري البري في سوريا يعني السير نحو مستنقع من السهل الدخول فيه ولكن الخروج ليس كذلك».. زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي صالح مسلم حذر تركيا من عواقب تدخلها في سوريا وقال عبر تغريدة علي تويتر إنها تدخل»مستنقع وتواجه الهزيمة هناك مثل تنظيم داعش». وتعتبر تركيا حزب الاتحاد الديمقراطي، التنظيم السياسي لوحدات حماية، امتدادا لحزب العمال الكردستاني PKK الذي يخوض حربا دموية منذ أكثر من ثلاثة عقود ضد الدولة التركية في جنوب شرق البلاد، وهو ما خلف 45 ألف قتيل منذ عام 1984 وحتي الآن، أما الولاياتالمتحدةالأمريكية فتعتبر PYD وPKK شريكين فاعلين في محاربة داعش في سوريا، والعجيب أن واشنطن ومعها الاتحاد الأوروبي يعتبران، من الناحية الرسمية، الميليشيات الكردية تنظيمات إرهابية، وكانت الإدارة الأمريكية تدفع بشدة نحو إنشاء كيان كردي مستقل في سوريا، حيث تتواجد قوات أمريكية خاصة في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد، وتعمل واشنطن منذ عدة أشهر علي سحب معداتها من قاعدة أنجرليك التركية إلي قاعدة عسكرية أخري في مدينة كوباني، حيث إن ذلك يتماشي مع الأجندة الأمريكية الخاصة بتقسيم المنطقة من ناحية، ومن ناحية أخري يوفر لواشنطن موطئ قدم في بلد استعصي عليها طوال عهدي الرئيس حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار. العملية العسكرية التركية يشارك فيها المئات من مقاتلي المعارضة السورية المقربين من تركيا وقوات خاصة تركية ليس لها إطار زمني أو جغرافي محدد، حيث يؤكد محلل عسكري تركي، رفض ذكر اسمه لوكالة الصحافة الفرنسية، أن » العملية قد تذهب لما هو أبعد». غير أن الورطة الكبري في هذا المشهد المتشابك، أصبحت علي ما يبدو من نصيب روسيا، حيث إنها نسجت علاقات قوية مع وحدات حماية الشعب الكردي PYD منذ شتاء 2015 وسلمتهم أسلحة متطورة، رداً علي قيام تركيا بإسقاط المقاتلة سو24، ويبدو أن التقارب بين القيصر والسلطان العثماني سيكون ثمنه التضحية بالأكراد. معضلة الأكراد يعود العرق الكردي لأصول مختلطة مابين الهنود والأوروبيين، يدين غالبيتهم بالإسلام علي مذهب أهل السنة، ويستوطنون نصف مليون كم مربع علي الأراضي التركية المتاخمة للحدود مع كل من العراقوسورياوإيران، وتترواح أعدادهم إجمالا، في البلدان سالفة الذكر، ما بين 25 و 35 مليون نسمة، يتواجد العدد الأكبر منهم في تركيا (من 15 إلي 17مليون نسمة)، ثم إيران (5 ملايين نسمة)، ثم العراق (5 ملايين نسمة) وأخيرا سوريا (3 ملايين نسمة)، وغالبا ما يعيشون في مناطق جبلية وكهوف ويغلب علي عاداتهم الطابع القبلي. عقب هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولي وبدء انهيار الإمبراطورية العثمانية، قامت تلك الأخيرة بتوقيع اتفاقية »سيفر» عام 1920 مع دول الحلفاء المنتصرة في الحرب، وكان ضمن نصوصها استقلال الكثير من البلدان عن النفوذ العثماني (منها بلاد الشام والحجاز وأرمينيا والعراق) والسماح للأكراد بإنشاء وطن مستقل لهم يكون مركزه غرب منطقة الأناضول وإقليم الموصل بالعراق، غير أن تولي مصطفي كمال أتاتورك لزمام الأمور في تركيا ونجاحه عسكريا في استرداد الكثير من الأراضي التركية من قبضة قوات الحلفاء، أجبرهم علي الجلوس والتفاوض معه ومن ثم توقيع معاهدة جديده في » لوزان» بسويسرا وذلك عام 1923، حيث ألغت بنود تلك الاتفاقية بنود اتفاقية »سيفر»، وتم الاعتراف بتركيا كوريث شرعي للإمبراطورية العثمانية المنهارة، كما تمكنت تركيا بموجب تلك الاتفاقية من ضم مساحات كبيرة من أراض كانت تابعة لسوريا في الأساس، ومنذ ذلك الوقت تعتبر كل من تركياوالعراقوإيران، الأكراد بمثابة خطر انفصالي يهدد وحدة أراضيهم . وفي 1978 قرر عبد الله أوجلان تأسيس حزب العمال الكردستاني في جنوبتركيا، علي خلفية ماركسية لينينية، وفي عام 1984 اتخذ الكفاح المسلح سبيلاً لإنشاء وطن مستقل للأكراد، وكان الرد التركي علي هجمات ميليشيات أوجلان عنيفاً وامتد ليشمل نشر 36 ألف جندي تركي في كردستان العراق، وتخطت حصيلة الحرب بين تركيا والأكراد حتي الآن حاجز ال45 ألف قتيل من الطرفين. وفي عام 1999 تمكنت المخابرات التركية بالتعاون مع الموساد الإسرائيلي من إلقاء القبض علي أوجلان في دولة الكونغو الديموقراطية (زائير سابقا) وتمت محاكمته بتهمة الخيانة العظمي وصدر بحقه حكم بالإعدام، لم تنفذه السلطات التركية لرغبتها في اللحاق بركب دول الاتحاد الأوروبي التي ألغت تلك العقوبة، وفي عام 2002 قامت تركيا نفسها بإلغاء عقوبة الإعدام من نصوصها القانونية، قبل أن يعود الحديث عنها مؤخراً لمعاقبة المتورطين في المحاولة الانقلابية الأخيرة. التحول الأهم التدخل العسكري التركي ما كان ليحدث لولا لقاء رجب طيب أردوغان بنظيره الروسي فلاديمير بوتين في سان بطرسبرج، في الثامن من أغسطس الجاري، والذي قدم فيه السلطان العثماني اعتذاره لسيد الكرملين عن إسقاط القاذفة سو24 في خريف 2015، واعداً إياه بدفع ثمن القاذفة وتقديم تعويض لأسرة الطيار الذي قضي في الحادث، وفي ظروف غامضة اختفي الطيار التركي، الذي أسقط المقاتلة الروسية، وأفادت وسائل الإعلام المقربة من الرئيس التركي أنه لقي مصرعه مؤخرا أثناء مشاركته في محاولة الانقلاب علي أردوغان في منتصف يوليو الماضي!! إلي جانب التدخل العسكري التركي في سوريا، فإن تحول أنقرة سياسياً تجاه دمشق هو الحدث الأهم إقليمياً علي مدار السنوات الماضية.. تركيا التي لم تتوقف طوال السنوات الخمس الماضية عن المطالبة بالرحيل الفوري للرئيس بشار الأسد باعتباره »جزار شعبه»، تطالب الآن »بفتح صفحة جديدة» في سوريا، مع »إيرانوالولاياتالمتحدةوروسيا ودول الخليج»، طبقاً لما صرح به رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم. ليس هذا فحسب بل أن يلدريم أضاف أنه »لا يجب السماح بتقسيم سوريا علي أساس عرقي والحفاظ علي وحدة أراضيها بأي ثمن» معرباً عن استعداد بلاده ل»بقاء الأسد لمرحلة انتقالية». وإذا كان أردوغان أرسل وفداً من ضباط مخابراته بقيادة رئيس الجهاز حاقان فيدان، فإن طائرات الجيش العربي السوري قصفت معاقل الأكراد في مدينة الحسكة لأول مرة منذ اندلاع الأزمة كنوع من الغزل الصريح لأنقرة، علي تغير موقفها تجاه النظام الحاكم في دمشق.