لما البيوت تتغير، والنفوس تتغير، تضيع صور، وساعات في لحظة نقطّع صور، بتفكرنا بجراح قديمة. لكن بتفضل صور، بتخربش كده بنعومة جوه القلب، كأنها نبع ميه بيندفع فجأة من بير غويط في الروح، الصور دي عمرها مابتضيع، زي صورة »مني» بنت عمتي، حتلاقيها في كل بيت من بيوت »آل قنديل»، صورة بالأبيض والأسود، لطفلة بفستان منفوش وبكم كرانيش، وبرغم أنها أختي الكبيرة، لكن الصورة بتخليها دايما الطفلة، اللي قلبها بيطل من جوه عينيها، مني بنت »عمتي هند»، عمتي الجميلة (اللي شبه نادية لطفي)الواضحة، والصريحة »زي السيف». كان ليا عمتين؛»هند وتهاني»، كل العيلة كانت بتقول إني شبه عمتي تهاني، خصوصا جبينها العريض، ورقبتها القصيرة، بس الحقيقة كل شوية أكتشف أني صورة -طبق الأصل- من عمتي هند، يمكن مش في الشكل، لكن في الطبع، عمتي هند كانت »مزاجية جدا» يمكن عشان ربنا ابتلاها الابتلاء الأعظم، اللي فضل زي الجرح المكتوم في قلب العيلة كلها، ابنها، الولد الوحيد؛ »حسام» كان نور عينيها، سافروا مرة المصيف، حسام جري علي البحر من وراهم، كانت الراية سودا، وغرق، الله يرحمه، مني بعتت لي امبارح صورة حسام، أنا كنت نسيت شكله، بس عمري مانسيت اللي حصل. رغم كل شيء فضلت عمتي تهاني تعمل برطمانات الليمون المعصفر، وتقطع الجزر مكعبات قد بعض بالظبط، وتشيل البذرة من الزيتونة، وتحط الكرفس جواها، وتحشر الجزراية في الزيتونة، ولأن عمتي تهاني كانت عيانة، ومابتقدرش تتحرك، كانت عمتي هند، وبرغم كل شيء برضو، تشيل البرطمانات علي قلبها الموجوع، من جاردن سيتي لمصر الجديدة، وأول ماتدخل البيت تهل علينا ريحة الكرفس، تحط الشنطة »الشبيكة»، وهي عرقها مرقها، وتقول: »أنا جبت الحاجات دي للعيال، كل موسم وأنت طيبة ياسعاد»، أمي (سعاد؛ مرات أخوها) تقول لها: »طب خدي نفسك م المشوار الأول ياختي». لما كنت باروح لعمتي هند في بيت جاردن سيتي، كنت بأنط السلالم من السعادة: »صباح الخير ياعمتي، أنا جيت ياعمتي»، فماتردش(رغم أني عارفة أنها بتحبني جدا ومش حتسيبني أروح، وحتمسك فيا، وأمي حتوافق: »سيبيها تبات معايا ياسعاد، والنبي») أمي كانت تسحبني من إيدي وتقول لي: »هسسسسسس عمتك لاحترد ولاحتسلم إلا لما تشرب القهوة والسيجارة»، بعد شوية ألاقيها طالعة من المطبخ وفاتحه لي دراعاتها.عمتي هند كانت تفاصل مع البياع، وتطلع عينه، وفي الآخر تبعت له صينية أكل معتبرة، يضرب كف بكف، وياكل ويدعيلها. مني، أخت البنات، شالت همنا، وبعد ما الأمهات ماتوا، عشت لوحدي، والدنيا كانت ساعات بتبعد بيننا، بس مني تدور عليا وتجيبني من تحت طقاطيق الأرض، مني »قلب كبير» تعرف أنه مستنيك مهما بعدت،»بنت عمتي»، وأبويا »خالها» والكلمتين دول بيخللوني أحس أن ليا جدور. أسعد لحظات حياتي لمانتلم كلنا في بيت جدي (سعدالله قنديل)، في السيدة عيشه، ريحة المشمع اللي مغطي الأرض كأني باشمها دلوقت، ولسه فاكره البيت لما بيتهز عشان الترماي معدي، وجدي يضحك: »خايفة ليه ياعبيطة؟! بدل ماتخافي روحي شوفي الترماي وشاوري له». كل الناس اللي باحكي عنهم دول يمكن محدش يعرفهم، ومش مشهورين، بس هما دول »صُناع الحياة»، فيهم حد تعرفوه، أبو مني، »حافظ محمود» شيخ الصحفيين، جوز عمتي، أول ريحة ورق شميتها في مكتبته الكبيرة، كان بيسمح لي أدخلها ويحايلني بشيكولاتايه »كورورنا» عشان أخرج وأسيبه يشتغل، »أونكل حافظ» بغموضه، بانعزاله في مكتبه، سرّب لروحي شيء غامض كده اسمه: »احترام الكتابة»، أنا ليه باحكي لكو الحكايات دي؟! أصل عيد ميلاد مني كان امبارح، وأصل كمان أنا بقالي أكتر من سنتين باكتب هنا، صحيح أنا واخدة عمود »إسبوعي» في الأخبار، بس أهو بيتي برضو، ويمكن لما أمشي تفتكروا صورتي وتحكوا عني..يمكن!