في صيف 1967وفي أعقاب هزيمة يونيو وجهني أبي في محاولة منه لإخراجي من حالة اكتئاب ما بعد الهزيمة لقراءة ثلاثة كتب علي التوالي: سندباد مصري لحسين فوزي، وشخصية مصر لجمال حمدان، وأيام لها تاريخ لأحمد بهاء الدين، علّي أجد في دروس التاريخ سلوي، كانت هذه هي المرة الأولي التي أقرأ فيها لثلاثتهم، لكني كنت أعرف من بينهم أحمد بهاء الدين، فقد كان بالنسبة لي صديق أبي الذي رأيته عدة مرات بالمصادفة في الإسكندرية في كابينتهم بسيدي بشر مع أسرته، استمتعت بالكتاب وبأسلوبه السلس الذي يصل إلي القارئ ببساطة، لم يكن الكتاب حديث الصدور، لكنه بالنسبة لي كان كشفًا. صدرت الطبعة الأولي من كتاب "أيام لها تاريخ"في شهر مارس من عام 1954، في سلسلة كتاب روزاليوسف، في لحظة فارقة من تاريخ مصر الحديث؛ فقد صدر في ظل ما يعرف في التاريخ المصري بأزمة مارس، تلك الأزمة التي انتهت بإغلاق الأبواب أمام إمكانيات التحول الديمقراطي في مصر لأكثر من ستين عامًا، ووأدت تمامًا الحقبة شبه الليبرالية التي عاشتها مصر بعد ثورة 1919 ، والتي كانت وليدة موجات متوالية من الحراك الشعبي المتواصل علي مدي ما يقارب القرن وربع القرن، وأظن أن إصدار الكتاب في هذا التوقيت لم يكن من قبيل المصادفة؛ فحكايات الكتاب كلها عن أيام من صراع المصريين من أجل حريتهم. يروي بهاء في كتابه ست وقائع من تاريخنا الحديث، يبدأها بحكاية "الأدباتي خطيب الثورة"، عبد الله نديم ورحلة حياته التي تحول فيها من فتي متمرد إلي أدباتي ثم لسانًا لحال الثورة العرابية، خطيبًا وكاتبًا، إلي أن انتهي به الحال هاربًا ملاحقًا لتسع سنوات، انتهت بوشاية قادت السلطات إلي القبض عليه ونفيه، انها حلقة من حلقات ثورات المصريين ونضالهم من أجل حقهم في إدارة شؤون بلدهم، وفي الحكاية الثالثة التي تحمل عنوان "للجلاء والدستور والفن الجميل"، يقف بنا عند محطة ثانية من محطات النضال الوطني، الحزب الوطني ورجاله والمواجهة بينهم وبين الاحتلال والسلطة الموالية له، وفي الحكاية الرابعة "إمبراطورية زفتي"يتوقف عند ثورة 1919 من خلال واقعة من وقائعها الشهيرة، في ريف الدلتا، إعلان يوسف الجندي لجمهورية زفتي، ثم يستكمل حكاية ما آلت إليه الثورة، في فصل بديع عن العظيمين - كما أطلق عليهما - سعد وعدلي، وكان عنوان هذا الفصل "الأمة بين سعد وعدلي"، يحكي فيه عن انقسام الأمة بين سعديين وعدليين، بعد أن يحلل خصائص شخصية الزعيمين، ويحاول أن يربط بين هذه الخصائص ونشأتهما الأولي. أما الحكاية الثانية والحكاية الأخيرة فقد تناول فيهما قضيتين من القضايا التي تعكس جوانب من الصراع الفكري والثقافي في المجتمع بين التقاليد البالية ومحاولات التجديد، القضية الأولي قضية "زواج الشيخ علي يوسف"في بدايات القرن العشرين، وهي من القضايا التي شغلت المجتمع في حينها، وفتحت نقاشًا واسعًا حول حق المرأة في أن تتزوج ممن تشاء حتي ولو كان ذلك بخلاف رغبة وليها، كما فتح الباب لمناقشة قضية الكفاءة في الزواج، والقضية الثانية قضية "الإسلام وأصول الحكم"التي أثارها صدور كتاب الشيخ علي عبد الرازق الذي يحمل هذا العنوان سنة 1952لقد كشفت هذه القضية بوضوح عن ضيق المساحة المتاحة لحرية البحث العلمي، وعن رفض المؤسسة الدينية لأية محاولة للتجديد. أيام لها تاريخ الكتاب الثالث من بين مؤلفات أحمد بهاء الدين سبقه كتابان؛ كتابه الأول "الاستعمار الجديد أو برنامج النقطة الرابعة"الذي صدر في شهر مايو 1951، والكتاب صغير في حجمه كبير في قيمته، قدم فيه بهاء دراسة تحليلية نقدية لبرنامج النقطة الرابعة، والذي شكل جزءًا من مشروع الرئيس الامريكي هاري ترومان في مستهل فترة رئاسته الثانية لإعادة تشكيل عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان المشروع يتضمن رؤية أمريكية جديدة للتعامل مع الدول غير المتقدمة بضخ رؤوس الأموال الامريكية إليها، وكشف بهاء في هذا الوقت المبكر تحولات القوي الدولية وانتقال مركز ثقل الرأسمالية سعيًا حثيثًا لتحل محل القوي الاستعمارية القديمة، وحذر من مغبة قبول هذا البرنامج وتأثيره السلبي علي استقلال مصر. في 25 أغسطس 1952"صدر عن دار روزاليوسف كتاب فاروق ملكا 1936- 1952"ثاني كتب أحمد بهاء الدين، بمقدمة لإحسان عبد القدوس، الذي طلب من بهاء بعد رحيل فاروق أن يكتب كتابًا عن سقوط الملكية، وفي رواية أخري روزاليوسف هي التي طلبت، وقد تحمس بهاء، حسب روايته، للفكرة، لتكون تقيمًا سياسيًّا وتاريخيًا لحقبة الملك فاروق في مواجهة الكتب والكتابات التي أسرع البعض بإصدارها في الأيام التالية لعزله، والتي كانت تتناول ما أسمته بليالي فاروق وسهراته الحمراء، كأنما المشكلة في العصر الملكي كانت مجرد مشكلة أخلاقية. وكتاب فاروق ملكًا نموذجًا آخر من نماذج كتابة بهاء التاريخية، ويقول رشاد كامل في مقدمته للطبعة التي أصدرتها مكتبة الاسرة لكتاب فاروق ملكًا في أغسطس 1999بعد 47عاما علي صدور طبعته الاولي: "ونفد الكتاب تمامًا وأصبح مرجعًا مهمًا وأساسيًا في مئات الكتب التاريخية والسياسية التي صدرت بعد ذلك، كما اعتبره أساتذة التاريخ إحدي الوثائق المهمة التي لا غني عنها للباحث التاريخي." وأذكر بالفعل أنني بناء علي توجيه أستاذي اعتمدت علي الكتاب في بحثي في السنة النهائية بقسم التاريخ عن حريق القاهرة، كما اعتمدت قبلها علي كتاب برنامج النقطة الرابعة في مجلات الحائط التي كنت أكتبها في عامي 1947و1975 مع عودة الولاياتالمتحدة بقوة إلي مصر. لكن يبقي "أيام لها تاريخ"الأبرز في كتابات بهاء التاريخية، وفي ظني أن بهاء شق بكتابه أيام لها تاريخ مسارًا جديدًا في الكتابة التاريخية في مصر، المسار الذي أسميه التاريخ للناس، فقد كان يخاطب في كتابه القارئ غير المتخصص، يقدم لقطات من التاريخ بلا ترتيب منهجي يجمع بينها قضية واحدة الدفاع عن الأفكار والمبادئ، وقد كانت الكتابة التاريخية قبل "أيام لها تاريخ"إما كتابة أكاديمية متخصصة أو كتابة موجهة لها منطلقات سياسية حزبية مثل كتابات الرافعي، أو صياغة روائية للتاريخ مثلما كان يفعل جورجي زيدان؛ فتح أحمد بهاء الدين بهذا الكتاب بابًا واسعًا لتقديم التاريخ بصورة شيقة وجاذبة للقارئ، فمد جسورًا بين الناس وتاريخهم. انطلق أحمد بهاء الدين من مقولة قدم بها لكتابه: "إن الإنسان حيوان ذو تاريخ"؛ فما معني هذا؟ يجيب بهاء في مقدمة الكتاب: "معناه أن الميزة الأولي التي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات هي أن كل جيل من البشر يعرف تجارب الجيل الذي سبقه ويستفيد منها.. وأنه بهذه الميزة ذ وحدها ذ يتطور.. وليس يكفي أن تعرف حوادث التاريخ لكي تحسب انك قد تعلمت التاريخ.. فألاهم أن تستخلص من هذه الحوادث عبرتها: علي أي شيء تدل؟.. وفي أي طريق يمضي التاريخ؟.. فإن ذلك يجعلك تعلم ما سوف يحدث وما لا يمكن أن يعود.. فيجنبك أن تكون رجعيًا، ويحميك من السير وراء دعوات براقة فات وقتها.. والتاريخ هو الفرق بين الإنسان الواعي، وغير الواعي" سار علي نهج بهاء كثيرون؛ فكتب حسين فوزي "سندباد مصري"في أوائل الستينيات ، وكتب صلاح عبد الصبور "رحلة الضمير المصري"في مطلع السبعينيات، وجمع صلاح عيسي "حكايات من مصر"في السبعينيات أيضًا، والقائمة تطول حيث بدأ بعض الأكاديميين المتخصصين يسلكون هذا النهج، لكن يبقي لأحمد بهاء الدين فضل أنه من فتح الباب وشيد الجسر للوصول بالتاريخ إلي الناس بأسلوب سلس وبسيط.