تمثّل رواية "جبل الطير" (2015) لعمار علي حسن إضافة مهمة في مسيرته السردية، خصوصا بعد صدور "حكاية شمردل" و"شجرة العابد" و"السّلَفي"، .. وغيرها، لكنّه يقدّم لنا، في هذه الرواية، نصًّا متخما بالمرويات والسرديات التي استطاعت أن تضفر الروائي بالواقعي، والصوفي بالدنيوي، في رواية ذات جسد ملحمي، يبلغ 644 صفحة، من السرد الشائق الذي ينهض علي تفجير أبعاد غرائبية في الشخصية الرئيسية "سمحان عبد الباطن". وهنا، ثمة حضور ميثولوجي في رواية تستحضر التاريخ وتستبطن الأفكار والأحاديث والقصص، ثم يُعاد إنتاجها، وصياغتها، بأشكال عدة، من أجل خدمة عالم روائي ثري، يمتاح من إرث نصوصي يستلهم بعض متون المتصوفة، وحكايات أولياء وقصص أنبياء قادمة من التوراة وكتاب الموتي، ونصوص وافدة من ثقافات أخري عن الأساطير والعالم القديم. هكذا تُفتتح الرواية بعبارة الجُنَيد (ت 297 ه) "الحكاياتُ جُند من جنودِ الله تعالي يُقوّي بها قلوب المريدين". الرواية من حيث البناء الفني مقسَّمة إلي خمسة فصول متوازنة إلي حد ما، حتي وإنْ كان مركز الثِّقَل السردي يأتي في الفصلين الأولين، أو ربما الفصول الثلاثة الأُوَل علي أقصي تقدير، حيث يتخلّق سمحان عبد الباطن لا بوصفه شخصًا من لحم ودم فقط، بل من حيث هو مركَّب ثقافي من رؤي ومكاشفات وميثولوجيا وأشياء أخري. وهنا، تتمثّل الرواية في طريقة افتتاحيتها "ألف ليلة وليلة"؛ فطريقة تركيب الفصول والمشاهد أشبه بمبني ذي طبقات، يقف علي باب كل منها سمحان الهائم في مناماته، الذي يمارس طقوسا هي أقرب إلي طقوس النبوءة؛ فاسمه مشتقّ من هذا الإرث العرفاني "الباطنيّ"، الذي جعله ينطوي علي نباهة وذكاء تكوَّن بهما في طفولته، رغم أنه حُرِم من مواصلة تعليمه، لكنَّه كان شغوفًا مُتيَّمًا بالمعرفة وغوايتها. فضلا عن ذلك، فما يؤكّد فكرة النبوّة علاقة سمحان بالجبل في حد ذاتها، حيث الذهاب والصعود إلي هذه المغارة التي هي أشبخ بخلوة وفضاء للتنسّك والرقيّ المعرفي والروحاني. وهنا تحديدا، تتقاطع شخصية سمحان مع زوجته المسيحية"جميلة"، ذات الإرث القبطيي، والتي تنطوي علي قيمة التسامح ذاتها، فجميلة هنا موازٍ أو معادل موضوعي لسمحان، في كونها عابرة أيضًا لفكرة الدِّين، وعندها النزوع الصوفي ذاته، فالاثنان قد التقيا في عالم الغيب، حيث تصادت بينهما مجموعة من الأحلام المتوازية، قبل أن يتقابلا في عالم المكاشفة والمشاهدة. لسمحان وجهان؛ أحدهما واقعي والآخر غرائبي. فعلي المستوي الواقعي، عُيِّنَ سمحان خفيرا لبعض المقابر الأثرية القديمة في منطقة تل العمارنة بمحافظة المِنيا، مثقلا بهذا الإرث الفرعوني القديم، وهي منطقة شهدت تجريفا للآثار المصرية وتعاقبت عليها مراحل من الفساد والنهب والسلب. لقد التقي سمحان، منذ اليوم الأول بعبد العاطي، الخفير السابق، الذي سيكون بمثابة "الشيخ العارف" بالنسبة إليه، رغم كونه قد ظهر في المشهد الأول باعتباره شخصًا جَهمًا، يُلقِي إليه المهمة الثقيلة، كأنه يعطيه رسالة ما، ويمضي. منذ الليلة الأولي، يبدأ سمحان في رؤية أشياء لم يقبلها عقله، لكنها اختمرت في باطنه، واشتعلت في مُخيِّلَته، وبدأت بعد ذلك مناماته أو مشاهداته الليلية؛ وهو رائح أو غادٍ بحماره، في رحلة صعوده اليومي إلي الجبل (و"جبل سمحان" حاضر بإرثه الميثولوجِي وحاضر بواقعه في فضاء المرويّات والمشاهدات القادمة من سلسلة جبال ظُفار بسلطنة عُمَانية). بيد أن الجبل، هنا، كائن في محافظة المنيا، حيث يقوم علي فكرة التوازي أو التوازن؛ كما يظل مركز ثِقَل الرواية وميزانها؛ لأنه معادل لمفاهيم الثقافة والتراث والهوية. إن الوتر الذي تعزف عليه رواية "جبل الطير" لعمار علي حسن هو مقاومة أوجه الفساد المستشري في جسد الثقافة المصرية؛ أقصد إلي ذلك الفساد المختلط بسرقة الآثار وسلب العقول وتجريف التراث والهوية، وذلك عن طريق مرويّات ومشاهدات عرفانية يقوم بها سمحان وجميلة والشيخ عبد العاطي.. وغيرهم.