توقف جزئي ب «جزيرة الدهب».. مصدر يكشف سبب انقطاع المياه في محافظة الجيزة    ماكرون يشيد بدور الرئيس السيسي في دعم القضية الفلسطينية    شريان الحياة من مصر | شاحنات المساعدات تصطف أمام معبر رفح تمهيدًا لدخولها إلى غزة    تحالف بقيادة قوات الدعم السريع يعلن تشكيل حكومة موازية في السودان    رغم سفره مع بيراميدز في معسكر الإعداد للموسم الجديد.. سيراميكا كليوباترا يعلن ضم فخري لاكاي    الخامسة في الثانوية الأزهرية: «عرفت النتيجة وأنا بصلي.. وحلمي كلية لغات وترجمة»    قبل انطلاق تنسيق الجامعات 2025.. قائمة كليات المرحلة الأولى لطلاب علمي علوم    دقيق وسكر ومعلبات.. جيش الاحتلال يبدأ إسقاط مساعدات إنسانية على غزة (فيديو)    إصابة 11 شخصًا بحادث طعن في ولاية ميشيغان الأميركية    الثالث علمي بالثانوية الأزهرية: نجحت بدعوات أمي.. وطاعة الله سر التفوق    «تجاوزك مرفوض.. دي شخصيات محترمة».. نجم الأهلي السابق يفتح النار على مصطفى يونس    الجنرال الصعيدي.. معلومات عن اللواء "أبو عمرة" مساعد وزير الداخلية للأمن العام    لطيفة تعليقًا على وفاة زياد الرحباني: «رحل الإبداع الرباني»    «حريات الصحفيين» تعلن دعمها للزميل طارق الشناوي.. وتؤكد: تصريحاته عن نقابة الموسيقيين نقدٌ مشروع    «الحشيش مش حرام؟».. دار الإفتاء تكشف تضليل المروجين!    ما حكم شراء السيارة بالتقسيط عن طريق البنك؟    أمين الفتوى: الأفضل للمرأة تغطية القدم أثناء الصلاة    بعد فتوى الحشيش.. سعاد صالح: أتعرض لحرب قذرة.. والشجرة المثمرة تُقذف بالحجارة    أبرزها الاكتئاب وضعف المناعة.. 50 ضررًا على الصحة يسببها «الحشيش»    ماكرون يشكر الرئيس السيسى على جهود مصر لحل الأزمة فى غزة والضفة الغربية    استشهاد 3 فلسطينيين وإصابات جراء قصف الاحتلال شقة سكنية في غزة    "الخارجية الفلسطينية": العجز الدولي عن معالجة المجاعة فى قطاع غزة غير مبرر    عيار 21 بعد الانخفاض الكبير.. كم تسجل أسعار الذهب اليوم الأحد محليًا وعالميًا؟    سعر المانجو والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الأحد 27 يوليو 2025    "سنلتقي مجددًًا".. وسام أبوعلي يوجه رسالة مفاجئة لجمهور الأهلي    عكاظ: الرياض لم يتلق مخاطبات من الزمالك بشأن أوكو.. والمفاوضات تسير بشكل قانوني    نيجيريا يحقق ريمونتادا على المغرب ويخطف لقب كأس أمم أفريقيا للسيدات    وسام أبو علي يودع جماهير الأهلي برسالة مؤثرة: فخور أنني ارتديت قميص الأهلي    السرعة لإنقاذ حياته..آخر التطورات الصحية لحارس مرمى وادي دجلة    محافظ الدقهلية يتدخل لحل أزمة المياه بعرب شراويد: لن أسمح بأي تقصير    سم قاتل في بيت المزارع.. كيف تحافظ على سلامة أسرتك عند تخزين المبيدات والأسمدة؟    النيابة تعاين المنزل المنهار بأسيوط.. واستمرار البحث عن سيدة تحت الأنقاض    تسجل 46 درجة مع فرص أمطار.. بيان مهم يحذر من حالة الطقس خلال الساعات المقبلة    خلال ساعات.. التعليم تبدأ في تلقي تظلمات الثانوية العامة 2025    مصرع شخصين وإصابة 2 آخرين في حادث تصادم دراجة بخارية وتوك توك بقنا    عطل مفاجئ في محطة جزيرة الذهب يتسبب بانقطاع الكهرباء عن مناطق بالجيزة    5 أسهم تتصدر قائمة السوق الرئيسية المتداولة من حيث قيم التداول    سعيد شيمي يكشف أسرار صداقته مع محمد خان: "التفاهم بينا كان في منتهى السهولة    تامر أمين يعلّق على عتاب تامر حسني ل الهضبة: «كلمة من عمرو ممكن تنهي القصة»    نقل الكاتب الكبير صنع الله إبراهيم لمعهد ناصر ووزارتا الثقافة والصحة تتابعان حالته الصحية    "مستقبل وطن المنيا" ينظم 6 قوافل طبية مجانية ضخمة بمطاي.. صور    أعلى وأقل مجموع في مؤشرات تنسيق الأزهر 2025.. كليات الطب والهندسة والإعلام    قبل كتابة الرغبات.. كل ما تريد معرفته عن تخصصات هندسة القاهرة بنظام الساعات المعتمدة    مستشفى بركة السبع تجري جراحة طارئة لشاب أسفل القفص الصدري    خالد الجندي: من يُحلل الحشيش فقد غاب عنه الرشد العقلي والمخ الصحيح    بدء المؤتمر الجماهيري لحزب "الجبهة الوطنية" في المنوفية استعدادًا لانتخابات الشيوخ 2025    وزير الثقافة: نقل الكاتب صنع الله إبراهيم إلى معهد ناصر بالتنسيق الصحة    الأمم المتحدة: العام الماضي وفاة 39 ألف طفل في اليمن    القاهرة وداكار على خط التنمية.. تعاون مصري سنغالي في الزراعة والاستثمار    وفاة وإصابة 3 أشخاص إثر انقلاب سيارة ربع نقل داخل ترعة بقنا    بسبب ماس كهربائي.. السيطرة على حريق بمنزل في البلينا بسوهاج    جامعة الجلالة تُطلق برنامج "التكنولوجيا المالية" بكلية العلوم الإدارية    5 أبراج «يتسمون بالجشع»: مثابرون لا يرضون بالقليل ويحبون الشعور بمتعة الانتصار    البنك الأهلي يعلن رحيل نجمه إلى الزمالك.. وحقيقة انتقال أسامة فيصل ل الأهلي    سيدة تسبح في مياه الصرف الصحي دون أن تدري: وثقت تجربتها «وسط الرغوة» حتى فاجأتها التعليقات (فيديو)    عاجل- 45 حالة شلل رخو حاد في غزة خلال شهرين فقط    حلمي النمنم: جماعة الإخوان استخدمت القضية الفلسطينية لخدمة أهدافها    تقديم 80.5 ألف خدمة طبية وعلاجية خلال حملة "100 يوم صحة" بالإسماعيلية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكايتي مع المكان‮ » ‬مدينتي عزبة البرج‮ « ‬قلبٌ‮ ‬من زجاج
نشر في أخبار الحوادث يوم 20 - 08 - 2016


1‮ ‬
‮"‬ما انفكت الأشرعةُ‮ ‬البيض تطيرُ‮ ‬صوبَ‮ ‬البحرِ‮ ‬كأجنحةٍ‮ ‬لا‮ ‬مكسورة‮ " ‬
ت.س‮. ‬إليوت
لم تتركنا الأماكن إلا ووضعت بصماتها بقسوة أو حنو علي أرواحنا‮ ‬فصرنا نحملها معنا أينما ذهبنا‮ ‬،‮ ‬تتجلي في أشكالنا وسماتنا وإبداعاتنا رغما عنا‮ .‬
في طريقي إليها والذي‮ ‬يمتد بطول أربعة عشر كيلو مترا من مدينة دمياط نفسها نحو الساحل الشمالي الشرقي حتي أصل اليها تمتلئ روحي برائحة الطفولة التي فارقتني مبكرا جدا لولا أن‮ " ‬البحر‮ " ‬احتواني بكل ما لديه من جنيات‮ ‬،‮ ‬الترعة الضيقة‮ -‬التي تم شقها منذ زمن بعيد لتروي الغيطان عن‮ ‬يميني مازال منها بعض كيلو مترات بعد عمليات الردم المتعاقبة لتوسيع الطريق‮ ‬،‮ ‬عن‮ ‬يساري‮ ‬يتلألا النيل هادئا دوما،‮ ‬يفصل بينها وبين رأس البر مصيفنا الساحر‮. ‬هذا الطريق‮ ‬أنشأه عباس الأول‮ ‬،‮ ‬في صيف‮ ‬1851م من دمياط إلي عزبة البرج مارا بقري عزبة اللحم والشيخ درغام‮ ‬والخياطة والبصايلة و‮....‬،‮ ‬عند مدخلها تتصارع الصور أمام عيني لأزدحم بها صور لا تخلو من مرحٍ‮ ‬قليلٍ‮ ‬وعشق وأمنيات كثيرة تتبعثر كالنوارس علي وجه البحر قبل قدوم الأنواء بقليل لتنبئ عما تخفيه الريح والأمطار‮ .‬
كطفلة عادية ولدت في مدينتي عزبة البرج‮ ‬التي نشأت علي مصب النيل في أقصي الشمال الشرقي لمحافظة دمياط‮ ‬تلك المدينة التي لا تتعدي السبعة كيلو مترات لكنها زاحمة بالأوجاع والجمال‮ ‬،فقلبها الزجاجي دائم الانكسار علي عتبات الرحيل‮ ...‬وبدأت حياة تشبه مدينتي‮ - ‬قاسية القلب‮ - ‬التي تتهيأ دائما للغياب‮.‬
ولدت لأم بسيطة ويتيمة لكنها كانت عنيدة حُرمت من التعليم فأصرت أن تمنحني ما حُرمت منه ربما أكون أفضل حظا منها‮... ‬تعلقتُ‮ ‬بالمدرسة كثيرًا ووجدتُ‮ ‬بها ضالتي‮ ‬،‮ ‬وكنت سريعة الحفظ والفهم في طفولتي‮ ‬أحفظُ‮ ‬الأغنيات ثم أتغني بها في فناءِ‮ ‬المدرسة مع زميلاتي‮ ‬،‮ ‬وكانت موهبتي للرسم قد بدأت في الظهور في الصف الأول الإبتدائي مع أول حصة للرسم فكنت أرسم كثيرا وأتباهي بخطي الذي لم تقتنع به معلمة الفصل وأنا في الصف الأول الإبتدائي ؛ فعاقبتني بالضرب بحجة أن أحدا‮ ‬يكتب لي قبل أن تتأكد إن كان ما أكتبه خطي أم لا‮ ‬؛ وكانت صدمتي في المعلم في بداية مشواري‮ .‬
عشقت أشعار الطفولة بالكتاب المدرسي والدروس القصصية البسيطة وتعلقت بالصورة أكثر وتمنيت التمثيل في النشاط المسرحي الذي كان‮ ‬يقدم خلال حفل واحد في العام هو حفل عيد الأم وطلبت من المعلمة أن تسمح لي بالاشتراك مع زميلاتي في الحفل لكنها نهرتني في بداية الأمر قائلة‮:" ‬أنت ممثلة فاشلة اخرجي من المجموعة‮ " ‬بالطبع لم أكن أعرف وأنا في الصف الثاني الابتدائي ماذا تقصد لكن المفردة التي قالتها لي بعنف ظلت ترن في أذني لسنوات طويلة‮ - ‬حتي دخلت الجامعة‮ - ‬تحول بيني وبين الاقتراب من مسرح الكلية‮ .‬
كان والدي قد توفي وأنا في التاسعة من عمري وتبدلت أشياء كثيرة‮ ‬،‮ ‬فبعدما انتهيت من امتحان المرحلة الإبتدائية خرجت للعمل في استديو للتصوير ووجدتني أمسك بالقلم والدفتر الذي كان أمامي علي المكتب وأكتب أول نص لي‮ ‬عن‮ " ‬الأمل في الحياة واليأس منها‮ "‬،‮ ‬كان موضوع النص كبيرا جدا بالنسبة لعمري الزمني وقتها‮ .‬ولم أسأل نفسي ما هذا الذي أكتبه‮ . ‬أدركت أمي وقتها أن مشكلة ما تتهيأ للظهور‮ . ‬لكنني انشغلت بالصيادين‮ ‬و بالنوارس التي‮ ‬تفترش وجه النهر والبحر قبل قدوم نوة من الأنواء فنعرف من هياجها فوق سطح الماء باحثة عن نصيبها من الأسماك المتناثرة علي السطح أن نوةً‮ ‬قادمة‮ ‬،‮ ‬علي ضفاف النيل‮ "‬بالعزبة‮ " ‬تتباهي المركبات بحصادها من الأسماك التي جاد بها البحر وتتراص علي الأرصفة لتخرج ما بها من خير جاد به البحر إلي المخازن حتي‮ ‬يقام في الصباح مزاد البيع والشراء،كرنفالا لما‮ ‬يجود به البحر الدنيس والوقار والكابوريا والجمبري بأنواعه والبوري والمرجان والبربوني والمكرونة والديوك وسمك موسي والبياض والقرش وغيره الكثير تراقص أمام التجار في حلقات الشراء‮ ...‬،‮ ‬أما الفقراء الذين لا‮ ‬يستطيعون نزول البحر فيصطفون علَّ‮ ‬السماء تجود عليهم ببعض من اللحم الطري‮ ‬يوزعه أصحاب المخازن الكرماء بعد الانتهاء من المزاد‮ .‬
الصغارُ‮ :‬يزركِشون وجهَ‮ ‬البُوغاز بدمعهم‮ ‬
والملاحون الراقصون علي أمواجِ‮ ‬جُرحنا‮ ‬
مدينتي‮ : (‬قلبها الزجاجي‮) ‬كثرة الوجع علمته الصلابة‮ ‬،،‮ ‬الأبناء ما إن شب عودهم وطاب فروا إلي حلمهم الأوحد‮ " ‬اليونان‮ " ‬زاعمين أنهم سيعودون محملين بالمال فهو الحصان الرابح هو الذي سيحقق لهم أحلامهم التي لا تتعدي بناء بيت جميل والزواج لاتمام نصف الدين وامتلاك مركب صيد هذه هي أحلامهم التي لا تتغير‮ ....‬لكن النداهة التي تسحرهم طول الوقت مهما أصابهم‮ ‬بها من أوجاع الغربة‮ ‬،‮ ‬لا تجود دائما بتحقيق الحلم ورغم ذلك‮ ‬يستكفون‮ ‬يتزوجون ثم‮ ‬يعودون للنداهة سريعا وتظل المرأة في البيت تربي الأبناء وترعي البيت وحدها فعودة الرجل بعد موسم الصيد لا تتعدي شهرين وتظل هي الأب والأم تظل تتساقط كالزجاج تحت أقدام أوجاع لا تنتهي‮ ‬،‮ ‬ومشكلات‮ ‬اجتماعية عديدة‮ ..‬
كل تلك الظلال جعلتني أهيم علي وجهي وأكتب عن كل شيء حولي وعن هذا الكائن الأسطوري الذي وأظل أتحدث إليه ساعاتٍ‮ ‬طويلة‮. ‬ولم تستوعب أمي وقتها جني الشعر الذي انصهر في روحي إذ كانت تخشي عليّ‮ ‬وتنتظر لي عالما أفضل من عالمها‮ .‬
وكان علي أن احتفظ بما أكتب لنفسي‮ ..‬لجأت لمعلم اللغة العربية وأعطيته قصيدتي‮ " ‬نبي الهدي‮ " ‬وأنا في الصف الثاني الإعدادي‮..‬نظر إليها داهشا وقال قصيدة هايلة وموزونه هذه فعلا قصيدتك ؟
لم استوعب وقتها ماذا‮ ‬يعني‮ ..‬وطلب مني تركها إلي أن‮ ‬يراجعها‮ ..‬وفي اليوم التالي قال لي بأنه فقدها‮ ‬،‮ ‬ولم‮ ‬يكن لدي نسخة أخري منها ففقد مصداقيته عندي للأسف وحزنت علي القصيدة‮ ‬،‮ ‬بعدها انتقلت لعملٍ‮ ‬آخر بمصيف المدينة رأس البر العالم الذي سحرني‮ ‬،‮ ‬والتقيت من خلال عملي بمحل شرائط الفيديو بالأستاذ الدكتور محمد مهدي علام نائب رئيس المجمع اللغوي سابقا من خلال حفيدته التي كانت في مثل سني وقتها وصارت صديقة لي‮ .‬وعندما علم منها أنني اكتب الشعر دعاني إليه واستمع إليّ‮ ‬وقرأ كل ما كتبت تقريبا‮ ..‬وقتها تأكدت بأنني لابد أن أستمر في الكتابة عندما قال لي‮ ..‬ستكونين‮ ‬يا ابنة النيل شاعرة كبيرة جدا ذات‮ ‬يوم إذا تهيأت لك الظروف‮ ....‬
وظللت أكتب حتي ثارت أمي وطلبت مني أن انصرف عن هذا العالم‮ ‬كي لا أفشل في دراستي وخوفا من أهل المدينة‮ ‬الضيقة والطاردة لأبنائها التي لا تعترف بشيء كهذا‮.. ‬وتم حرق كل ما كتبت وأنا في نهاية المرحلة الاعدادية‮ ‬،‮ ‬لكنني لم أستطع التوقف‮.‬
2‮ ‬
‮" ‬إن تيار الحياة الجارف‮ ‬يلمس الأعماق وعالم الأشكال‮ ‬يعود إلي وكره في جمال‮ ‬،‮ ‬متجاوزا لكافة الأشكال‮ " ‬طاغور‮ .‬في المرحلة الثانوية كان مدير المدرسة معلما رائعا ومثقفا وكان سعيدا بموهبتي فجعلني مسئولة عن الإذاعة المدرسية وشجعني علي الكتابة وطلب مني أن ألقي قصائدي في الإذاعة المدرسية لأعرف رأي زملائي الذين كان بعضهم‮ ‬يسخر في بداية الأمر‮ ‬،‮ ‬فمدينتنا لا تعرف‮ ‬غير العمل‮ ‬والرحيل‮ . ‬والمرأة عندهم ليس لها حق في التعبير‮. ‬
وكنت أمارس عملي في رأس البر بعد المدرسة وأذاكر ليلا وكنت أحاول قراءة كل ما تصل إليه‮ ‬يدي من كتب وخاصة الشعر‮ ‬،‮ ‬وعندما أدركت أمي أنه لا مفر من جني الشعر الذي‮ ‬يسكنني تركتني أكتب وكانت أول مستمع لي بل وكانت أكثر قسوة في نقدها الدائم لما أكتب قائلة أتمني أن أراك كاتبة كبيرة ذات‮ ‬يوم‮ .‬وكنت أحاول شراء كتب الشعر بقدر المستطاع وأقرؤها خلال وقت الفراغ‮ ‬بعملي‮ .‬
كان مدير المدرسة‮ ‬يتابع كتاباتي ؛ فطلب مني‮ ‬الذهاب لقصر ثقافة دمياط لألتقي بأدباء كبار هناك وأتعلم منهم‮ ‬،‮ ‬وهذا ما حدث بعد ذلك عندما التحقت بكلية التربية بدمياط واختارني أستاذي رئيس قسم اللغة العربية مسئولة للنشاط الثقافي‮ ‬،‮ ‬وبدأت أنسق بعض الندوات الشعرية بالكلية وفيها ألقي قصائدي أمام الشعراء ضيوف الندوات وتعرفت وقتها‮ ‬علي أدباء دمياط أساتذتي‮ : ‬محمد العتر وسمير الفيل وأحمد الشربيني ومحروس الصياد ومحسن‮ ‬يونس ومحمد الزكي ومحمد علوش وعيد صالح ومصطفي العايدي وطه شطا وغيرهم من المبدعين الكبار الذين أثروا حياتي الإبداعية بعد ذلك‮..‬ذهبت إلي قصر الثقافة و من خلال ندوة الاثنين تعلمت أكثر وتم صقل موهبتي‮ .. ‬وبقدر قسوتهم في النقد بقدر ما تعلمت منهم وأدين لهم بالفضل إن كنت حققت ولو قدرا قليلا مما كنت أطمح فيه‮ ... ‬وفي عام‮ ‬1998‮ ‬تقدمت للنشر الاقليمي وقدمت مجموعة من القصائد تضمنها ديواني الأول‮" ‬نقش له في ذاكرتي‮ " ‬وبالطبع كان له وعليه مشكلات الاصدار الأول وكانت قصائده عن أمي والبحر وأبي والحياة الخشنة في مدينتي لكنني استفدت من تجربة النشر وبدأت في مرحلة التواجد التي كنت أطمح فيها‮. ‬
وكنت وقتها التحقت بفرقة فارسكور المسرحية من خلال زميلتي القاصة بديعة صلاح التي ألحت عليّ‮ ‬أن أشاركها بدور الأم في مسرحية زمار الحي تأليف فتحي البريشي وإخراج فوزي سراج ورغم رفضي وخوفي من التجربة بسبب معلمتي التي أصرت أنني ممثلة فاشلة وأنا طفلة‮..‬إلا أنني وافقت وأنا مذعورة من التجربة‮ .‬
وبالفعل اشتركت في المسرحية وظللت أرتعش في الكواليس حتي التقيت بالجمهور وزال كل الخوف كالسحر‮ ‬،‮ ‬ولم أكن أتوقع نجاحي علي خشبة المسرح أبدا‮ ..‬بعدها انتقلت الي الفرقة القومية وفرقة كفر سعد وتوالت أعمالي المسرحية‮ .. ‬ولا أنكر أنني استفدت من الكثير من المخرجين الأساتذة الذين شملوني برعايتهم وثقتهم وأسندوا إليّ‮ ‬العديد من الأدوار فصرت بطلة الفرقة القومية بدمياط‮ ‬،‮ ‬واستمرت تجربتي المسرحية حتي انتقلت لدراسة النقد الفني بأكاديمية الفنون ؛للاقتراب أكثر من عالم المسرح الذي احتواني وتعاملت مع مخرجين أخرين استفدت منهم الكثير وكنت مارست الإخراج لأكثر من عمل مسرحي بنوادي المسرح،‮ ‬وعملت مخرجا منفذا لعروض عديدة وقمت بتكوين فرقتي تفاصيل المسرحية‮ ..‬وتم اعتمادي‮ ‬مخرجة بالثقافة‮ ‬2007‮ ‬عن عرض مرة واحد بيحلم‮ . ‬وبلا شك أن عالمي المسرحي كان قاسما مشتركا في‮ ‬تجربة الكتابة لدي‮.‬
‮ ‬3‮ ‬
‮" ‬قلوبنا التي عرفت البحر‮ ...‬لا تعرف الحدود‮ " . ‬يانيس‮ ‬ريتسوس
ظل الشعر رفيقي وملاذي الآمن لكنه لم‮ ‬يخلع عباءة البحر عنه،‮ ‬مدينتي صبغت أعمالي بالأزرق وجنون البحر والصيادين والأرامل والنوارس واليود والسماء بكل ما فيها من جمال‮ .‬
وعُينت معلمة للأطفال بعد التخرج‮ ‬وقتها استعدت ذكرياتي القديمة في التعليم وأردت أن أصنع عالما آخرا في تلك المدرسة التي بنيت أمام البحيرة وبيت جدي‮ . ‬وبدأت اكتب للأطفال‮ ‬،‮ ‬لكنني لم أجرؤ علي الكتابة للأطفال إلا عندما مارست كتابة الشعر للكبار وأدركت أنني ربما أكون قد امتلكت أدواته إلي حدٍ‮ ‬ما‮ .‬لصعوبة الكتابة للطفل والتي تتطلب خبرات عديدة‮ . ‬وربما لو لم أحتفظ بالطفولة داخلي لما استطعت الكتابة لهم في الأساس‮ .‬
وقررت أن أستفيد مما حدث لي في طفولتي من خبراتٍ‮ ‬مؤلمة فقررت أن أصبح معلمة مختلفة بالفعل‮ ..... ‬طلبت من مديرة المدرسة أن نقوم بتفعيل‮ ‬الأنشطة المدرسية بالمدرسة ومن حسن حظي تعاونت معي‮ . ‬وبدأت الكتابة للأطفال وقتها عندما تعايشت معهم من خلال تدريسي للغة العربية وقررت أن أحيا معهم ما كنت أتمني أن أحياه‮ ‬أثناء طفولتي‮ ‬،‮ ‬بدأت تدريبهم علي فنون المسرح وساعدني علي ذلك أنني كنت أمارس التمثيل والإخراج من قبل‮ ‬،‮ ‬فقمت بمسرحة العديد من المناهج للأطفال ثم بدأت كتابة‮ ‬القصص والأشعار والنصوص المسرحية لهم حتي أحدثت حراكا حقيقيا في الإدارة التعليمية بالمدينة ومن ثم بدأ التنافس بيننا وبين المدارس الأخري‮ ‬يصب في صالح التلاميذ الذين ساعدهم النشاط علي توسيع مداركهم‮ .‬
التقيت بأستاذي الشاعر وكاتب الأطفال الكبير أحمد زرزور بعدما قرأ ديواني‮ " ‬تفاصيل العبث‮ "‬،‮ ‬وطلب أن‮ ‬يقرأ نصوصي الشعرية لدراستها وتوقف عند تجربتي مع الطفل‮ ‬فقرأ نصوصي الموجهة إليهم وقد كان وقتها دائم الحرص علي صناعة كُتَّاب للأطفال لإيمانه بأهمية أدب الطفل ويقوم بنشر إبداعاتهم من خلال مجلة قطر الندي وكنت من ضمن كتاب كثيرين للطفل تعلموا علي‮ ‬يديه في ورشة قطر الندي سواء في الشعر أو القصة‮ .. ‬وبدأت أنتج أول مجموعة قصصية لي هي‮ " ‬المرجانة نانا‮ " ‬ثم ديواني للأطفال‮ " ‬ألواني‮ " ‬وتوالت اصداراتي للأطفال بعد ذلك لأقدم مجموعة قصصية بعنوان‮ " ‬هند تصنع الحكايا‮ " ‬و ديوان‮ " ‬ماذا أكون‮ " ‬وبعض النصوص المسرحية الموجهة للطفل التي تم انتاجها علي خشبة المسرح‮ .‬
واستمرت رحلتي في الكتابة وإقامة ورش الحكي للأطفال ليس فقط في قصور الثقافة بل في كل مدرسة أعمل بها وكل موقع ثقافي أذهب إليه ؛ لتدريب أبنائي علي الكتابة ولم أندهش لكل ما قدموه من إبداع ثري‮ ‬يؤكد أن أبنائنا‮ ‬يحتاجون منا الكثير‮ .‬
فبدأت أعمل علي صنع تواصل بينهم وبين مجلات الأطفال بأن أحفزهم علي نشر إبداعاتهم فيها وعمل حوارات معهم بطريقة خاصة تساعدهم علي تنشيط مخيلتهم وقمت بنشرها في مجلات الأطفال تباعا كانت دافعا قويا لهم علي النجاح‮ ‬،‮ ‬كما كانت دافعا قويا لي‮ ‬لممارسة الكتابة أيضا‮ .‬
ولم أجد مشكلة للتوفيق بين كتابتي للكبار وللصغار معا‮ ‬،‮ ‬لأن النجاح في التوفيق بينهما لا‮ ‬يحتاج سوي الصدق‮ .. ‬لكن مدينتي التي تعلقت بكل مفرداتها ظلت همي في الكتابة للكبار والصغار علي حد سواء فالبحر والبحيرة والنهر والصيادون والمركبات والشباك والبوغاز والصخور والفنار وكل ما‮ ‬يملؤني من مفردات مدينتي راسخ فيما أكتب‮ .‬وما زال نهر الشعر‮ ‬يجرفني أمامه‮ ‬يتلون قليلا بخبراتي الحياتية‮ ‬والفنية والأكاديمية لكنه لا‮ ‬ينفصل أبدا عن ملامحه القديمة‮ .‬لأن الأماكن لا تفارق أصحابها مهما ابتعدوا عنها‮ . ‬وكل ما أرجوه أن أصبح‮ ‬قادرة بالكلمات علي رسم عالم‮ ‬يبقي طويلا وأبقي معه‮ . ‬
أيها البحرُ‮ ‬الممددُ‮ ‬باتساع رقصتي
أما زلت آيلاً‮ ‬لاقتحامي‮ ‬
رغمَ‮ ‬غطرسةِ‮ ‬الأنواء؟،
أيها البحر‮ : ‬أسطورتك الوحيدة أنا‮ ! ‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.