انشغل المصري القديم بفكرة الخلود بعد الموت، فبني الأهرامات لتكون شاهداً علي أكبر وأعظم مقابر في التاريخ الإنساني. وها هو الحفيد القادم من الأقصر، تتلبسه الفكرة نفسها التي برزت بوضوح من خلال رواياته السابقة، بداية ب (الصنم)، مروراً ب (منافي الرب)، ونهاية بهذه الرواية التي نحن بصددها: (انحراف حاد). تدور أحداث الرواية في سيارة ميكروباص، أجرة أسيوط 345678، تحمل جمعا من الأشخاص: زياد، شاب جامعي بائس الحال، قبيح الوجه، مثقف، يهوي كتابة القصص. رشيد أحمد الطماوي، مقاول عمومي كبير، فقد ابنته زينب ذات الخمسة أعوام منذ 20 سنة، ومن يومها لم يمل البحث عنها بالارتحال لكل مكان. سوسن، ابنته التي قد أبدلت اسمها، وأضحت عاهرة متمرسة تسكن الشوارع. أبو أميرة، سائق الميكروباص، الذي يتوق لأن يصبح أباً وقد تأخر إنجاب زوجته، والذي ضاجع سوسن ذات مرة. امرأة تحمل طفلاً، هو ثمرة العلاقة بين سوسن وأبو أميرة. خميس، الذي قتل زوجته نوال جزاء خيانتها له. ياسر مبروك، عريف مجند، وعشيق الزوجة المقتولة، الفقير المقهور من رؤسائه، والذي يعاني الضجر في مكان خدمته. حميد المجري، النصاب المحترف وزير النساء، ساكن العشوائيات. وشيخ، وقس، نشعر بشكل أو بآخر أن إيمانهما ينازعهما العقل، وأخيراً، صنع الله، الذي سوف نأتي علي ذكره لاحقاً. علي الرغم من الخيوط القوية التي تربط الشخوص ببعضها، إلا أن التيه، أو دعنا نقول العمي، هو الذي شوش تلك الرؤية، والنتيجة أنه لم يتعرف أحد علي الآخر بيقين المعرفة. ذلك العمي، لم يكن وليد تلك اللحظات، بل هو قديم، ففي اليوم الأول لضياع الطفلة زينب في مولد الحسين، ورغم أنه في لحظة من اللحظات قابلت عينا الأب ابنته، إلا أنه لم يرها، "كانت تجلس هنا .. عيناك أصابت عينيها ولم ترها .. ما ذنب الله وأنت الذي سلمت نفسك لعماء الحزن ..فلم تبصر؟!". خطيئة العمي لم تكن فقط بسبب الحزن، كان هناك سبب آخر: الرؤية السطحية للأشياء. "تخطيء يا بن آدم عندما تبحث عن الهيئة التي تعرفها.. ما تبحث عنه قد يتشكل في هيئات أخري.. ابحث عن الجوهر". الكل يمتلك أسباب حزنه، فهم مجموعة من الموتي الأحياء، وربما كانوا في انتظار الموت ليحيوا، لأنه سيكون نوعاً من النجاة، فخميس، رغم أنه فهم الرسالة التي يريد أن يقولها باب السيارة حينما رفض في أول الرحلة أن ينغلق، فهم أن "هذه السيارة ستتعرض لحادث، ولن يكون حادثاً عادياً، وإنما بشعاً، لدرجة أن أرواح الركاب لن تنسل إنسلالاً عند خروجها من أجسادهم، وإنما ستفر هلعاً"، ومع ذلك أصر علي ركوب السيارة!! الرواية عبارة عن سؤال فلسفي كبير: "هل الخلود ممكن؟"، ويدور في فلكه أسئلة فلسفية عديدة تنفذ حتي عمق الثوابت لتهزها بقوة. صنع الله، الذي يصف نفسه قائلاً: "أنا مُعظِّم الله الذي منحنا الحياة ومذل الداعين إلي استعذاب الموت.. منحني الله نبع الخلود.. واذَّن لي في سُقيا المتنوِّرين بالعقل .. ووهبني قلباً من حديد.. أقسو به علي كل من لا يؤمن بقدرتي علي الخلود"، يظل طوال الرواية يدعو الأبطال إلي اتباعه، داعياً إياهم للتفكُّر: "الزم عقلك كي يُعَلِمَك.. واقرأ بقلبك كي تفقه .. واشرب صمتاً طويلاً من كأس الحكمة كي يقول لسانك قولاً ثقيلاً.. ثم صوِّب إرادتك نحو الغاية الجليلة .. خلافة الله علي الأرض". تلك الشخصية الأسطورية الخارقة، والتي تحتمل العديد من التأويلات، منها أنه جنوح العقل المتحرر من التراث نحو المنطق، أو أنه الشيطان، أو لحظة إستنارة عقلية أو وحي رباني. تندهش الشخوص من هذا الرجل اللغز، المستعصي علي الفهم، الذي يدعو لشيء يخالف الحقيقة الوحيدة الثابتة في الكون: "الموت". يستبعدون كونه شيطاناً لترديده كلام، كما أنه لا يحترق بتلاوة القرآن، وفي نفس الوقت يستبعدون تماماً أن يكون ملاكاً، لما يمتلك من قسوة لا يمتلكها عتاة المجرمين! بطول الرواية، تتابع إجابات صنع الله علي كثير من الأسئلة الجدلية، إلا أنها تحيلنا إلي مزيد من الأسئلة الشائكة والجريئة. فالإجابة هنا ما هي سوي فخ منصوب ببراعة شديدة، شاحذاً كل أسلحة الفكر المسنونة، التي ما إن امسكت بها فستقطع بالتأكيد صلتك بكل ما هو مسلمات محيلة إياك للشك. لغة الروائي قوية، شاعرية أحياناً، فلسفية أحياناً أخري، مطعمة بمرادفات من العامية المصرية، وجاء الحوار باللهجة الصعيدية متوافقاً مع الشخوص. تسلُك الرواية مسلكاً شائكاً تصدم به وعي المتلقي، و يتضح ذلك تحديداً في شخصية صنع الله: "أنا المتنبي من قبل إخوتي نوح وإبراهيم وعيسي ومحمد .. قبل كل من ذكر ومن لم يذكر في الكتب المقدسة .. أنا معلم أخي موسي"، الذي ينكر وجود الشيطان: "ليس الشيطان غير أسطورة سوداء صنعتها نفسك الشريرة كي تدَّعي الطُهر .. وأنها ليست صانعة الآثام وغازلة المستنكرات"، وكذلك وجود الآخرة "كما أنه لا شياطين هناك .. فإنه لا آخرة هناك .. اليوم الآخر أداة الظلم التي حولها المقهورون إلي أمل في العدل"، وبالمثل رفضه لما يسمي بالمكتوب والمقادير والنصيب: "ليس مكتوباً علي الجبين غير ما تخطه أنت"، "المقادير ذريعة ابتدعها الإنسان ليعلق عليها أسباب خيباته"، "بقدر عقلك يكون نصيبك". وعلي الرغم من تشكيك صنع الله في المسلمات، نجد الراوي يتمسك بملمح أساسي في قصة الخطيئة الأولي، والمتمثل في الحية (الشيطان) "التي تصرف الاتجاه عن الطريق، تسحر النظر، فتسحب العقل"، ربما تكون إشارة للتراث الغث الذي يلتهم العقل. يثير الكاتب الكثير من القضايا الاجتماعية، مثل أطفال الشوارع، والعشوائيات: "بيوت اسطبل عنتر، بيوت مهملة، يسكنها منسيون، يتعلقون بخيوط دخانية تخلفها الطائرات النفاثة". الفتنة الطائفية، واضطهاد المسيحيين واشتغالهم بالأعمال الدونية: "في نجع الزمانات، كما في غالب نجوع بر مصر، المسلمون عدد ذر الرمال، والمسيحيون كرقمة سوداء في جلد جمل أبيض، لا ذكر لهم ولا عدد، ولا يمثلون للمسلمين غير قيمة وحيدة يهتمون بها، هي قيمة الإحساس بتملك البشر، القيمة التي تصب دائماً في صالح سطوة العائلات الكبيرة من بطون القبائل العربية التي استوطنت مصر بعد فتحها، ليتوزع المسيحيون مع مرور الزمن علي بيوت المسلمين، ينتسبون إليهم كأملاك لهم". وعلي الرغم من العدد الكبير لصفحات الرواية، إلا أن الأحداث تتلاحق بشكل سريع، فمشاهد الرواية في تقاطعها تحمل الكثير من التشويق مستدرجة القاريء في الاسترسال لمعرفة ما ستؤول إليه النهاية. حتي أن دلالة رقم السيارة التصاعدي كان إشارة أخري لتزايد سرعة الأحداث، وكذلك السرعة الجنونية للسيارة ذاتها. تبدأ الرواية بعبارة افتتاحية هي تلخيص للمتن: "مغلق عليك في حجرة ضيقة، مع شمعة وحيدة مضيئة، حتي هذا اللهب الضعيف بعد وقت، لا بد من أن يذبل، ينطفيء، وسيغرقك الظلام، بينما وراء الجدران ضوء باهر، تفيض به شمس منيرة ابداً، حطم الباب وأخرج، وتنوَّر"، ثم فصَّل ذات المعني بقوله: "إذا أردت الحق حقاً حرر عقلك من الفكرة المحتلة .. ثم اقرأ برأس حر"، هنا كان إصرار لتوصيل الفكرة بتكرارها بصياغات مختلفة، وتزداد المشكلة في الجزء الأخير من الرواية، مع تكرار مقابلة صنع الله مع كل شخصية وتعريفه بنفسه بنفس العبارة وتقريباً إدارة نفس الحوار. المباشرة في توصيل الفكرة، بدأت مع أول صفحات الرواية، وحتي قبل أن تبدأ، وذلك في العبارة التي عرضناها سابقاً، فكان حري به التخلص من الكلمة الأخيرة (تنوَّر) لأنها من المعلوم من أحداث الرواية بالضرورة. تلك المباشرة لم نجدها مطلقاً في (منافي الرب) رغم سطوع الفكرة ذاتها: الخلود. مشهد الجثث كان مؤلماً وسينمائياً جداً. فالكل أخيراً اجتمع بحبيبه/غريمه، لكن متأخراً، بعد الموت! وأري أنه كان من الأفضل أن تنتهي الرواية عند هذا المشهد الموحي، الصامت بصخب. لكن ربما فضل الراوي ختامها بمنطق "اللاأدرية"، وكأنها محاولة للرد أو لعدم الرد علي عبارة جاءت في أول صفحة من الرواية: "ما الذي يدعو مالك الشمس لأن يطلعها كل يوم من المشارق وفي نفس التوقيت، طوال ملايين السنين الفائتة، ولملايين السنين القادمة، إن لم يكن ثمة أمر، غاية في الخطورة، يربض في الآفاق السحيقة؟!"، فنجده يجيب قائلاً: "الدنيا ليست مفهومة، والأمور فيها تجري علي غير نسق محدد، والأفضل ألا يفهم الإنسان الدنيا تماماً، المتعة تبقي في محاولة الفهم، لكن الفهم نفسه عذاب". لكن أشرف الخمايسي لا يعلم أنه حينما أشفق علينا من العذاب وضعنا أمام عذاب أكبر.