" لازم نموت عشان ربنا يعجن الطينة من جديد.. على نضافة " جاءت هذة العبارة الواردة على لسان إحدى شخصيات رواية "انحراف حاد" للكاتب الروائي أشرف الخمايسي لتعكس فلسفة الخمايسي المتصالحة مع الموت، وإن كانت الرواية جدلا عنيفا بين عالم زاخر بالمتناقضات ما بين سعي الإنسان منذ وجوده نحو الخلود ما كان تناول آدم التفاحة من شجرة المعرفة إلا سيعا وراء الخلود وما بين إذعانه وتسليمه بقدره بأنه فان ٬ ولقد سجل لنا التاريخ الإنساني حكايات شتى كان حلم الخلود هاجسها ٬ نبع الحياة الذي رحل نحوه "إنكيدو" في ملحمة جلجامش ربما كانت من أشهرها. "انحراف حاد" جمعت 15 شخصية في "الميكروباص" حيث تتقاطع وتتشابك علاقاتهم القديمة وينتهون لمصير واحد وهو الموت ليس لأنهم رفضوا الخلود الذي ساقه وعرضه إليهم "صنع الله" في صفقة أشبه بتلك التي أبرمها الشيطان مع فاوست ولكن لأنه كما تنعكس قناعة الراوي ذاته :" البلاوي دي مش موجودة عشان الموت موجود ياراجل يا طاسة .. دي موجودة عشان البني آدم موجود ..إحنا يابني ربنا خلقنا من طينة معجونة بالظلم والطمع .. وإذا كنا يا دوب عشان هانعيش خمسين أو ستين سنة القلق راكب قلوبنا وخايفين م اللي جاي هانعمل إيه ف نفسنا بأه لو عرفنا اننا مش هانموت أبدا ؟" وربما يراوغك الخمايسي ويقدم لك رؤية تنتصر للعقل والعلم الذي ربما يحقق الخلود يوما ما وتتحقق خلافة الإنسان على الأرض كاملة لكنها في حقيقتها تتحيز للحقيقة التي تتلبس قلوبنا حينما نشتهي ألا نفنى أبدا . يواصل الخمايسي طرح التساؤل الذي يؤرق الكثير منا: "هل خلقنا الله ليعذبنا؟" وهو السؤال المستبطن لكل شخصيات الرواية ماعدا "صنع الله" فبدأ من " رشيد " الذي فقد ابنته " زينب /سوسن "في ساحة الحسين وهو يحمد الله أنه منّ بها عليه بعد يأس في أن يكون له ذرية ٬ سوسن نفسها تفقد طفلها عقب ولادته بساعات وفي اللحظة التي تجده مع عشيقة "صنع الله " في الميكروباص "ويموت كلاهما . نجح الخمايسي في اختياره للفضاء الأخير الذي تنتهي به شخوص روايته "الميكروباص" فتجاور الشيخ "الغريب" مع القسيس وكل منهما يقص للآخر حادثه مع الشيطان /صنع الله ٬ بجانب مقعد أبو "أميرة" والد ابن سوسن وهو الذي حرم من الإنجاب ٬ جمع الميكروباص بين "ياسر مبروك" وخميس زوج عشيقته "نوال "٬ بين "المجري "النصاب /النبي المزعوم وهو وحده يعرف حقيقة بنوة الطفل لسوسن بين المرأة ذات الشعر الأبيض عشيقة "صنع الله " وبين زياد الذي التقاها في الكاب دور وأخبرته صديقته بأنها مخاوية . براعة السرد والنقلات الأشبه بتكنيك التصوير السينمائي يتسارع إيقاعها في النصف الثاني من الرواية التي وزعها الخمايسي على 71 عنوانا أشبه بكادرات بصرية سريعة خاطفة مكثفة المعنى والدلالة مما يرشح الرواية لعمل سينمائي يحمل سمت الغرائبية أو ما يطلقون عليه الواقعية السحرية . جاءت اللغة السردية دافقة مندفعة بسهولة ويسر أنتج تفاعلا حميميا بين النص ومتلقيه ٬ وهذا المزج بين بعض المناطق ما بين الفصحى والعامية جاء بشاعرية لا يمكنك معها الشعور بنفور من لفظة هنا أو هناك . "انحراف حاد" تطرح من الأسئلة أكثر مما تمنح من إجابات وربما السؤال الأهم : هل يحتاج الإنسان للخلود حقا ؟