أمي قبل أن أعرفها، تحت هذا العنوان كتب مجموعة من الأدباء عن أمهاتهم، كتبت جانيت وينترسون وهي شاعرة وكاتبة قصة قصيرة فازت بجائزة الوايتبريد عن أولي رواياتها (البرتقال ليس الفاكهة الوحيدة) علاوة علي جوائز أخري، قالت وهي تحدق في صورة قديمة لأمها: "حين أنظر إلي هذه الصورة لا أعرف بما أشعر؟ حزن، خوف، طيبة، أمل، عطف، إمتنان. لا أعرف. إنها صورة محترفة التقطت لها في أوائل الأربعينات؛ جدائل شعرها، وفستانها الأسود الذي يغطي الرقبة، واللا خلفية، يوحي بإحساس فيكتوري". تنتمي والدة وينترسون جانيت وينترسون لعائلة عريقة، إلا أن الحرب العالمية الأولي قلبت حياتها، فاضطرت إلي الزواج وهي في الثلاثين من عمرها، سنة 1919، من رجل لا تحبه، يصغرها كثيراً، انتهازي ومغامر، متعطش للسلطة، استولي علي مالها لإقامة مشروع تجاري، فقد أصبح بفعل الحرب أكثر وحشية، إذ دأب علي إرهاب زوجته وابنته، متخلياً عنهما. تستكمل وينترسون: "أمي تزوجت للإبتعاد وأيضا للحط من قدرها، كما تعودت قول ذلك، ولم تتعاف من خسارة مكانتها. في تلك الصورة أري خسارتها، وكبرياءها أيضاً". تركت والدة ونترسون الدراسة في الرابعة عشرة من عمرها، بينما ترك زوجها دراسته في الثانية عشرة من عمره، وكان جندياً غير منضبط، بالنسبة له كان إنزال قوات الحلفاء علي الساحل الفرنسي لمحاربة ألمانيا النازية أمرا مرعبا. تحكي: "تزوجته أمي بعد التقاط هذه الصورة مباشرة، وبعد انتهاء الحرب، كان هو قانعا بحاله، أما هي فأبداً. وفي سنة 1960، عرفت أنها غير قادرة علي الإنجاب، فتبنياني". حين وصلت ونترسون إلي السادسة عشرة، كانت قد انتهت من "البرتقال ليس الفاكهة الوحيدة" كمسرحية للإذاعة، وعندما نُشرت سنة 1985 قالت إن والدتها قدمت لأول مرة طلبا لشراء كتاب تحت اسم مستعار، بعد أربع سنوات توفيت أمها وهي في التاسعة والعشرين، فلم يتح لونترسون وقت لإصلاح أي شيء، ما تتذكره، مسدس في الدرج وحالة من الإكتئاب الشديد. تقول: "أشعر بالأسف لوفاتها قبل استعادة ثروتها، وأنه لم يكن لها منزل بحديقة". أما ديفيد هير، وهو كاتب مسرحي ومخرج سينمائي يتحدث عن والدته نانسي هير قائلا: "في هذه الصورة كانت خارجه للتو من دير أوبي كلوز، في 2 أكتوبر سنة 1941، كانت والدتها تقول لها إنها لن تعثر أبداً علي رجل يتزوجها، لأنها لا تصلح للزواج، إلا أنها هنا تتأبط ذراع بحار، تعرفت عليه حين راقصها في جرينوك. كثير من القراء يرون أن مذكراتي (الورقة الزرقاء المؤثرة) تحتشد بنساء رائعات إلا أن بطلتها الحقيقية هي نانسي هير والدتي، وكانوا علي حق، أمي لم تكن تريد أن تخاف الحياة كما حدث لها، لم تكن تعبر لنا عن حبها قط بالكلمات، لكن بالحرية التي منحتها لنا، والسماح لنا بالذهاب حيث نريد، وألا نحاكم علي أخطاء لمجرد عزمنا علي ارتكابها". بينما علق جوليان بارنز الذي شملت ثلاثة من أعماله القوائم القصيرة للبوكر علي صورة والدته كاثلين سكولتوك قائلا: "تلك الصورة التقطت منتصف الثلاثينات، قبل عشر سنوات من إنجابي، أكاد أجزم من الخلفية الضبابية للمنازل أنها التقطت في فرنسا، كانت حينها أمي الطالبة بجامعة برمنجهام في زيارة لصديق لها بالمراسلة بالقرب من بلدة نانسي، أزعم أنني أتخيلها تُظهر للفرنسيين، نعم، الإنجليز قادرون أن يتسموا بالأناقة أيضا، تعجبني ملابسها، والإيشارب، الشعر، أو بالأحري الأحذية البيضاء الخارجة عن المألوف التي تمنحنا لمحة، أبتسم كلما نظرت إليها وهي بسيجارة مشتعلة. حين كنت صبيا، كان ذلك يصيبني بالغثيان، أما الآن أراه شيئا أنيقا إلي حد ما، ويعجبني تعبير وجهها، ودود إلي ما لا نهاية". يضيف بارنز: "أنا بالأساس أحب تلك الصورة، لا لأنها تذكرني بوالدتي، بل لأنها تشبه قليلاً ممثلة معاصرة لا أذكر اسمها حاليا، ربما في فيلم يدور حول من يعملون بحديقة بليتشي أثناء الحرب، أزيد علي ذلك أنها تبدو كإمرأة شابة مع عدد من الإحتمالات المختلفة لحياتها فيما بعد.. كنت أتمني لو لم تكن أمي، فلقد توترت علاقتنا لفترة طويلة، شملت مشاحنات ومشادات بلاهدف، آه.. لو أننا لم نلتق أبدا، ذلك من أجلها وليس من أجلي". الشاعر الإنجليزي أندرو موشن قال عن صورة والدته جيليان موش التي ورثها إنها التقطت في بيكرنزفيلد أوائل الثلاثينات، وهي مرسومة باليد، وكانت ضمن مقتنيات جدته، حيث كانت معلقة في حجرة النوم طوال ثلاثين عاما، وبعد أن ورثها وضعها علي رف مكتبته في انجلترا، وحاليا في أمريكا حيث يتطلع إليها كل يوم، متأملا شباب وبراءة أمه، يقول: "في هذه الصورة، أري الأشياء علي حقيقتها، وأري أيضا ما لم تستطع أن تراه، المأساة التي ادخرتها لها الحياة، حادث ركوب الخيل، الغيبوبة الطويلة، تسع سنوات تموت ببطء، تماما كما كتب ويليام كوبر في إثنين من سطوره الجميلة:" إنه فعل الزمن لكن بنصف نجاح في السرقة". أما الشاعرة جاكي كي، فهي ابنه متبناه لزوجين ، أم اسكتلاندية وأب نيجيري، تحكي عن صورة أمها هيلين كاب قائلة: "هذه أمي في الثانية أو الثالثة والعشرين، بحذاء التزحلق في جبال الألب الجنوبية، حيث وصلت إليها في قارب بعد سبعة أيام في عرض البحر. أمي رائعة قبل أن تصبح أمي. لمحة من ماضيها هي لمحة داخل مستقبلي. قلبي يغني باحثاً عنها هنا، كانت مستكشفة، مغامرة، عابرة لدوامة الزمن، أعتقد أن خلال عبورها قمم الجبال، عثرت علي ذاتها في الجانب الآخر من العالم، فكرت عند عبورها المحيط الهندي للمرة الأولي: ماذا لو لم تعد مرة أخري؟ وجهها هنا يشبه مستقبلها؛ عيون مفتوحة، جميلة، واثقة، الآن هي في الخامسة والثمانين، تصفني بذاتها الثانية، تقول لي دائماً: أنت قريبة مني كما لو كنت ابنتي التي أنجبتها". الأديب ويليام بويد، وهو من أكرا عاش بها إلي أن التحق بجامعة نيس في فرنسا والآن هو محاضر في أوكسفورد، تحدث أيضاً عن صورة والدته إيفيلين بويد قائلاً: "التقطت تلك الصورة سنة 1951، قبل ولادتي بعام في حفل زفاف أحد الأصدقاء، روت لي أنها كانت علي وشك الرحيل مع زوجها إلي غرب أفريقيا حيث المستعمرة البريطانية جولد كوست التي أصبحت فيما بعد غانا. في سيرته الذاتية تذكر فلاديمير نابكوف مشاهدة فيلم تدور أحداثه قبل ولادته فأصيب بصدمة لدي رؤيته ما لم يكون مألوفا، وأدرك عندها أنه لم يكن موجودا علي الإطلاق ولم يفجع أحد غيابه، وأنا لا أشعر بذلك، يجب أن أعترف، أنني أري في تلك الصورة إمرأة في عنفوان الشباب تواجه بكل هدوء مستقبلا في أفريقيا، كان بكل تأكيد لايمكن أن تتخيله".