لم أكن أفكر في زيارة سوريا هذه الأيام، فأنا لست من هواة المغامرات الخطرة، ولا الشطحات المجنونة لكنها الأقدار تلعب ألاعيبها كالعادة، وتزج بنا حيث نشاء أو لا نشاء.. دعوة رسمية وصلتني من العاصمة السورية دمشق وضعتني علي الطائرة السورية التي هبطت بنا في اللاذقية وهي في طريقها إلي حاضرة سوريا وعاصمتها.. رحلة التحليق فوق السحاب والهبوط إلي الأرض استغرقت حوالي 3 ساعات.. كانت الهواجس لا تفارقني. ولا أنسي ما قاله ضابط الجوازات في مطار القاهرة عندما علم أن سوريا وجهتي، قال مندهشاً: كان عليك أن تأخذ معك سترة واقية ضد الرصاص لأنك ذاهب إلي ساحة حرب وليست نزهة جبلية في بلاد الشام. تنتشر في العالم حالات إحباط علي جميع المستويات الإنسانية، وتتعرض حقوق الإنسان للعدوان من قِبَل القوي المادية التي تتجاهل القيم الروحية البنَّاءة وتقاومها، بل تُغيبها تغييباً قسراً، وتستفرد بالبشر الضعفاء، وتضعهم أمام خيار أحادي الجانب هو الانضواء تحت لواء المادية البحتة دون أي اعتبار للقيم الروحية، وإنسانية الإنسان. ومن هنا ينشأ الصراع بكل مراتبه التي تتراوح بين الجدل بالكلام، والتحارب بالأسلحة الفتاكة الدموية وغير الدموية، وتتسع دوائر الجرائم فتشمل خارجياً الحروب بين الدول، وداخلياً الحروب بين الحكومات وشعوبها، وتفرز الصراع حالات عدم الاستقرار وانعدام الأمن، وتقضي علي السعادة الإنسانية، وتدمر الحرية بدعوي المحافظة عليها، وتقضي علي الديمقراطية الوطنية باسم الديمقراطية العالمية، وتصادر الفكر المعارض بدعوي التفكير نيابة عن المعارضين. منذ مأساة قابيل وهابيل والإنسانية تعاني من جراء سفك الدماء والغالب يتحكم بالمغلوب علي جميع المستويات ابتداء بصراع أفراد الأسرة وانتهاء بصراع الأمم والحضارات، وكل ذلك يجري عندما تتغلب القوي المادية الشريرة علي القوي الروحية الخيِّرة، وفي التاريخ الماضي والعصر الحاضر الكثير من الأمثلة التي تعزز هذا الرأي. ولكن استقراء الوقائع والأحداث التاريخية يكشف عن تناقض واضح بين الشعارات البراقة المرفوعة، والتطبيقات المجحفة التي تجري علي أرض الواقع، فمعظم الحكام يبدؤون برفع شعارات تحرير الشعوب، وينتهون بوضع الشعوب باستغلالها، ووضعها تحت السيطرة لتحقيق رغبات الأقوياء علي حساب الضعفاء. أراد السوريون أن يقولوا لنا »سوريا بخير« وهذا هو العنوان الذي اختاروه برنامجاً لحوالي 002 صحفي ومراسل عربي وعالمي ونواب برلمان وأكاديميين من مختلف أنحاء العالم لكي يروا سوريا الجميلة الهادئة لا سوريا المكذوبة التي تروج لها فضائيات الفتنة كما يقولون من أمثال قناة الجزيرة والعربية وال»بي.بي.سي« وغيرها.. وكان السوريون أكثر كرماً ونظموا جولات لنا في عدة مدن بأنحاء سوريا منها حماة واللاذقية ومستشفي تشرين العسكري وهناك التقينا بالجرحي والمصابين جراء المواجهات التي قالوا لنا إنها بين قوات الجيش ومسلحين مجهولين! وعندما سألت الضابط الجريح في المستشفي العسكري عن شكل هؤلاء المسلحين ومن أي جنسية هم.. سكت لحظات ثم صرخ بأمل أنهم أعداء الوطن.. يحيا الرئيس بشار.. تسقط الأمم المتحدة! كما نظموا لنا رحلة إلي سوق الحميدية والمناطق التاريخية في دمشق القديمة والتي لا تختلف كثيراً عن القاهرة القديمة، اقترب من أحد العاملين بطاقم التليفزيون السوري، وعندما تعرف عليَّ وصار بيننا حوار ودي وإنساني تلفت حوله ثم همس في أذني قائلاً: أنت الآن تشارك في أكبر مسرحية لخداع العالم! تركني وانصرف، وعلي وجهه ابتسامة ساخرة. سارت الرحلة علي خير ما يرام وفي العاصمة دمشق كلما تجولنا فيها وجدنا مظاهرة تقترب من الوفد الإعلامي الكبير الذي يشبه الوفود السياحية بما يحمله من كاميرات فيديو، وكاميرات تصوير فوتوغرافية، وتهتف للرئيس بشار الأسد، وعلي الفور تطل علي ذاكرتي تنظيمات الحزب الوطني المنحل في مصر وحركات صفوت الشريف وأحمد عز الحزبية، وترتبياتهما السياسية التي أطاحت بالحزب في نهاية المطاف غير مأسوفاً علي شبابه وشيوخه. في حماة كانت الرحلة محفوفة بالمخاطر وكنت أعرف ما فعله الأسد الكبير بهذه المدينة، ولا ينسي السوريون الدماء الذكية التي سالت علي أرض هذه المدينة في عام 2891 بمدافع الجيش السوري وتحت قصف دباباته، ومنذ أكثر من 04 عاماً لم تتوجه الدبابات السورية صوب الجولان لتحريرها، بل توجهت صوب حماة لتكميم الأفواه ووأد الفتنة كما يقول عنها النظام السوري، ومطاردة المسلحين الذين يهددون سوريا وأمنها ووحدتها، ويردد النظام ليل نهار أن حماة معقل الإخوان المسلمين أعداء الله والوطن، وأن في سوريا أكثر من 04 ملة وطائفة ولابد من يد قوية تضرب بعنف حتي لا تندلع الفتنة الطائفية وتحول سوريا الموحدة إلي صومال مفتت أو لبنان متشرذم! هناك في حماة كانت المفاجأة الكبري بمجرد وصول الوفد الإعلامي العالمي بالكاميرات حتي خرج الآلاف من أهل حماة ليقولوا للعالم كلمتهم وحتي تسمعهم الدنيا.. هتفوا أمام الكاميرات بلا خوف من الموت.. يسقط بشار.. يسقط بشار.. تحيا سورية.. تحيا الحرية. ودوت طلقات الرصاص في كل مكان تحصد الأرواح وتطارد رؤوس المتظاهرين أينما كانوا.. ولتذهب الحرية إلي الجحيم. وبدلاً من أن يتفرغ المراسلون والصحفيون الذين قطعوا آلاف الأميال ليروا أن (سورية بخير) كانوا يهربون ليختبئوا خلف بناية أو وراء شجرة أو خلف صخرة.. فالعمر واحد ولا بديل عنه! أما في مستشفي تشرين العسكري علي أطراف دمشق فقد شاهدنا المأساة الحقيقية.. ضباط وجنود مبتورو الأعضاء أو مصابين بطلقات نارية جراء معارك وهمية مع الأشباح والمسلحين كما يقولون، وانتهت الزيارة بتوزيع الورود عليهم الهتاف الممزوج بالخوف والدموع المتحجرة في العيون.. يحيا الرئيس بشار الأسد! في تلك اللحظة كانت قناة الجزيرة تذيع خبر عاجل: 01 آلاف قتيل وجريح ومعتقل منذ بدء الانتفاضة قبل خمسة أشهر في ربوع سوريا.