تغيرت مصر كثيرا، من كان يتصور أن عشرات الآلاف، يمكنهم أن يستمروا في اعتصام مفتوح، طوال حوالي شهر كامل ؟ في أكبر ميادين القاهرة الكبري رابعة العدوية والنهضة، في ظل حر يوليو، وفي شهر الصيام، من كان يتوقع أن تخرج المسيرات بصفة مستمرة في مدن مصر ومحافظاتها؟ بشكل شبه يومي وفي أثناء النهار، حيث تصل درجات الحرارة إلي أكثر من 40 في مدن الصعيد . أظن أن هذا هو المشهد الذي لم يتوقعه أصحاب القرار بعد 30 يونيه . فقد جرت العادة، منذ بداية ظهور جماعة الأخوان المسلمين في عشرينيات القرن الماضي، وطرحها مشروعا مختلفا مع النظم السياسية القائمة رغم اختلافها، من ملكية فاروق، إلي زمن عبد الناصر، إلي ليبرالية السادات، إلي عهد مبارك والذي خلا من الملامح، أنها دائماً رد فعل للقرارات السلطة . في زمن فاروق حاول إجهاض المشروع، بالقبض علي مؤسس الجامعة الشيخ حسن البنا واغتياله . بعد ذلك واعتقال بقية القادة . وذهب الملك وجاءت محنة 1954في الصراع بين الجماعة وجمال عبد الناصر . فكانت النتيجة اعتقال الآلاف، واعدم عبد القادر عودة، وسجن المرشد المستشار حسن الهضيبي وكل القيادات، واستمر الوضع كما هو حتي جاءت المحنة الثانية في 1965، لنكتشف أن التنظيم وفقا لمفهوم السلطة مازال حيا، وموجودا، ويتآمر، وفقا لما قالته السلطة الناصرية . فتبدأ مرحلة جديدة من الإعدامات، وفي المقدمة سيد قطب، ويتم الزج بالعشرات من جديد في السجن. وأصبح المفهوم العام في دوائر السلطة، ومجموعات الأمن، التي تتولي ملف الأخوان المسلمين، أنهم من الضعف والهوان، أن "من يضربهم علي الخد الأيمن يعطوا له الخد الأيسر" وكانت الشواهد تشير إلي ذلك، رغم أن زمن السادات كشف حقيقة غابت عن الجميع، أن سجون عبد الناصر أفرزت أجيالاً جديدة ،كونت رؤيتها للواقع من عمليات التعذيب المنهج في السجون، فكفرت الحاكم، وبعضهم سعي إلي الهجرة من المجتمع، دون أن يحسبوا علي الإخوان ،لا سياسيا، ولا تنظيميا، مثل الجماعة الإسلامية، وتنظيم الجهاد، والعديد من التنظيمات الأخري، مثل ما يعرف إعلاميا بالتكفير والهجرة، أو تنظيم الفنية العسكرية، والغريب أن فترة السادات شهدت "شهر عسل" مع الإخوان المسلمين، بعد أن ساهموا بدور مميز في مواجهة جماعات اليسار، وتنظيمات الناصريين ،الذين اعتبرهم الخطر الأهم علي نظامه، ولكن سرعان ما انتهي العسل بعد اتفاقية كامب ديفيد مع العدو الصهيوني، وبعد أن نجح السادات في تجميع كل طوائف المجتمع ضده في سبتمبر 1981ودفع السادات حياته علي أيدي تنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية . ولم يكن مبارك بعيدا عن حادث المنصة، التي أودي بحياة السادات، وقد تكون الصدفة وحدها ،أو استهداف السادات شخصيا، وراء نجاته من الحادث، ولكنه لم ينس أبدا "شبح الموت" الذي حلق فوق رأسه . وعلي يد إسلاميين دون أن يفرق بينهم وبين الأخوان. فدخل في مواجهة مفتوحة مع الجماعة ،زادت نتيجة استمرار مبارك في الحكم طوال ثلاثين عاما، فقد شهدت تلك الفترة حملات منتظمة من الاعتقالات ،وفي كل المحافظات، وعلي كل المستويات . ماعدا المرشد العام للجماعة، ووصلت إلي نائبه خيرت الشاطر، وبتهم مختلفة، كل ذلك دون أن يكون هناك أي رد من الجماعة، سوي الإدانة والشجب، وأدرك الإخوان أنهم من يدفعون الثمن وحدهم، في أي تظاهر، أو احتجاج شعبي، أو تحرك ضد النظام في زمن مبارك . فبدأوا في طرح مختلف، وهو ضرورة توفير التنظيمات الأخري لنصف المشاركين ،علي أن يكون عليهم النصف الباقي. حتي جاءت ثورة 25 يناير . والتي شهدت دخول قطاعات عديدة اغلبهم غير مسيس، من التنظيم الأكبر في مصر والمعروف "بحزب الكنبة" وساهمت تلك الثورة، في تغيير طبيعة الشعب المصري في مجمله، وأصبح أكثر تسيسا، واهتماما بالمشاركة في الشأن العام ،واستجاب أكثر من مرة إلي دعوات للنزول إلي الميادين . ولم تفهم دوائر صنع القرار، أن ثمة جديداً في الشارع المصري، ومنهم بالطبع جماعة الإخوان المسلمين ٍ، وتعاملوا بنفس أسلوب الزمن القديم، الذي صنعته وكرسته امن الدولة، وكان السيناريو المتوقع أن الإخوان المسلمين ،سيقبلون وبسهولة إجراءات عزل الرئيس محمد مرسي، طالما تمت بالتزامن مع قرارات بالقبض علي بعض القيادات، مما يفقدهم توازنهم، وتعجز القواعد في المستوي الأدني عن الحركة . والتصرف، خاصة وسط حملة إعلامية حول هروب المرشد محمد بديع، والقبض عليه أثناء عملية الهروب إلي ليبيا، وهو ما ظهر انه كذبه سريعا، بعد الظهور الشهير للدكتور بديع في ميدان رابعة العدوية، وبدأت مرحلة جديدة من اللعبة، التي أسميتها منذ عدة أسابيع "عض الأصابع "، فتنوعت إستراتيجية أهل الحكم . وفي البداية كان التعويل علي إصابة المعتصمين بالملل، من الوجود في الميادين مدة طويلة، ولكن الأعداد استمرت في التزايد، بعد دخول بعض المتعاطفين من جهات وقطاعات متنوعة ومختلفة، تعتقد ان ما تم هو انتهاك للشرعية، وبعدها بدأ الحديث عن المصالحة الوطنية ،وكانت المسألة عبارة عن "نكته بايخه" ،مع الاعتقالات التي تمت لبعض القيادات وسرعة تحويلهم إلي الجنايات . وبدأوا في استخدام الوعيد، بل وتنفيذه علي الأرض عدة مرات، من خلال مواجهات مع قوات الحرس الجمهوري والشرطة في عدة مواقع. ولكن أعداد المعتصمين تزيد ولا تنقص . ولم تجد التحركات التي تمت علي المستوي السياسي، سواء بعد سلسلة التفويضات التي تمت ،اعتبرت أن استمرار الاعتصام في رابعة العدوية والنهضة يهدد الأمن القومي، وتم تفويض وزير الداخلية بفض الاعتصام وعادت سياسيات الوعيد والتخويف، ومقترحات جنرالات الإعلام في إنهاء الاعتصام، كل ذلك والأعداد في زيادة، ولم تعد تقتصر علي رابعة والنهضة، بل وصلت إلي العديد من المدن، كل ذلك يعيدنا إلي المطلب الأهم، وهو ضرورة البحث عن مخرج سياسي، مناسب وفق رؤية متكاملة للمرحلة القادمة، تقتنع به قيادات الاعتصام، يمكنها أن تقدمه للآلاف ،التي اعتصمت لأكثر من شهر في الميادين وتسمح لها بالعودة إلي منازلها ،والانخراط في عملية ديمقراطية سليمة. هذا هو الطريق الوحيد للحل، وغير ذلك هو وصفة للفوضي، واستمرار لحالة عدم الاستقرار في مصر .