وأقصد بهما «ثمانية ونصف» لصاحبه »فيديريكو فيلليني« المخرج الإيطالى ذائع الصيت، شرقاً وغرباً. و»الاحتقار« لصاحبه رائد الموجة الجديدة الفرنسية المخرج السويسرى »جان لوك جودار«. وكلا الفيلمين من ذلك الفصيل النادر، من الأعمال السينمائية التى يدور موضوعها، وجوداً وعدماً، حول صانعى الأفلام، وصنوف المعاناة، التى يواجهونها، أثناء مراحل الإبداع المختلفة. والغريب، أنه ورغم ندرة أعمال ذلك الفصيل، أخرج اثنان من عمالقة السينما فيلميهما »ثمانية ونصف« و»الاحتقار« فى نفس السنة (1963)، عارضين فى كليهما لما يحتمل داخل صاحب الفيلم من صراعات، قد تؤدى إلى العجز عن إنجاز الفيلم فى نهاية المطاف. وفيلم »ثمانية ونصف« أقرب إلى أن يكون سيرة المخرج الذاتية فى مرحلة فارقة من مشواره السينمائى، وجد نفسه فيها، متوجاً مرتين بجائزة الأوسكار أفضل فيلم أجنبى، وفى نفس الوقت يرفل فى ذرا المجد العالية، بفضل فيلمه السابع »الحياة اللذيذة« (1959). ومع صيرورته هو »والحياة اللذيذة« حديث الناس فى مشارق الأرض ومغاربها، وجد نفسه عاجزاً عن إبداع فكرة جديدة بها ينطلق إلى آفاق سينمائية على نحو يستطيع معه أن يحقق نجاحاً، به يتجاوز نجاحات »الحياة اللذيذة« منقطعة النظير. خروجاً من ذلك المأزق، امتحن عزيمته على نحو لم يجد معه من سبيل سوى التعبير عن حيرته بالكتابة عنها، لا بالقلم كالمعتاد، وإنما بالكاميرا فى فيلمه الثامن الذى أسماه »ثمانية ونصف«.. فعلى امتداد الساعتين وعشرين دقيقة، هى مدة الفيلم حكى فيللينى قصة معاناته، بوصفه مخرجاً، متقمصاً شخصيته فى الفيلم، مخرج من صنع الخيال اسمه »جيدوانسلمى« ويؤدى دوره النجم »مارشيللو ماسترويانى« الذى سبق له أداء دور الصحفى الحائر فى شعاب »روما« فى رائعة فيللينى السابعة »الحياة اللذيذة«. وبداية ففيلم »ثمانية ونصف« وقبل كل شىء يقال، فيلم عن صناعة »ثمانية ونصف«. إنه يحكى قصة إنتاجه، مسلطاً الضوء، لا عملية تصويره، وإنما على التطور النفسى الذى بفضله تخلق الفيلم حتى أصبح فى نهاية الأمر، فيلماً حكايته منحصرة فيه لا تقول شيئاً إلا عنه، من خلال مشاهد، يختلط فيها الواقع بالخيال بالذاكرة، على نحو أوضح الكثير من جوانب شخصية مخرج يفكر فى فيلمه القادم، وكيف يكون، وفى أثناء ذلك يعانى من أزمة إبداع، يكاد ألا يجد منها مخرجاً. والمعاناة لا تقتصر على تلك الأزمة، وما يتصل بها، إنها والحق يقال، معاناة متصلة، لا تنقطع، إلا مع انتهاء الفيلم. معاناة مصدرها المنتج والممول، وكاتب السيناريو والممثلون، فعالم السينما قاس، لا مكان فيه للرحمة والتواد. وفيلم »الاحتقار« يختلف بعض الشىء عن فيلم »فيللينى« ففيه لا يحكى »جودار« سيرته، مثلما فعل صاحب »ثمانية ونصف«. ففيلمه مأخوذ عن رواية للأديب الإيطالى »البرتو موافيا« بعد أن خلّصلها »جودار« من شوائب الميلودراما الصارخة. وأبطال الرواية، كما أعاد »جودار« حكايتها، عبارة عن كاتب سيناريو مغمور »بول« ويؤدى دوره ميشيل بيكولى، يعيش فى روما مع زوجته »كاميل«.. وتؤدى دورها »بريجيت باردو«. ويجد »بول« فرصته فى الصعود، بفضل تكليفه بكتابة سيناريو مستوحى من »الأوديسية«. وتتعقد الأمور بين »بول« ومنتج الفيلم ومخرجه، ويلعب دور الأول الممثل »جاك بالانس«.. أما المخرج فيلعب دوره بنفسه »فريتز لانج« المخرج العالمى الأشهر. واللافت أن »جودار« قد أسند إلى نفسه دور مساعد المخرج »لانج«.. وتزداد الأمور تعقيداً، على نحو ينتهى بعدم إنتاج الفيلم. يبقى لى أن أقول إن »ثمانية ونصف«، و»الاحتقار« كلاهما أعجوبة بين الأفلام!!