لا أعتقد أن في تاريخ أى سينما فى العالم.. ظاهرة يمكن أن نطلق عليها اسم (ظاهرة المطربات الممثلات).. كما هو الحال فى السينما المصرية. حقاً لقد عرفت السينما الأمريكية هذه الظاهرة خلال الفترة الذهبية لأفلامها الاستعراضية التى استمرت ما يقرب من العقدين.. وظهرت مطربات كبيرات كان لهن شأن فى عالم الغناء الأمريكى.. وتوجهن إلى السينما لإبراز مواهب مختلفة كبيرة كانت مختفية وراء أصواتهم الجميلة.. ومن أشهرها من المغنيات الكبيرات (جودى جارلاند) التى أثبتت منذ مراهقتها قدرتها الغنائية الفذة.. التى برزت بوضوح فى أشهر الأفلام الاستعراضية التى أنتجتها شركة (مترو جولدن ماير) بل أن تنتقل إلى إثبات مكانتها المميزة كممثلة كبيرة قادرة على تقمص أكثر الأدوار الدرامية صعوبة.. كما فى فيلم (مولد نجمة) لجورج كيك.. و(بانتظار الطفل) لجون كاسانتس وغيرها من أفلام كبار المخرجين.. والشأن نفسه كان مع المغنية (دوريس داب) التى أنقذت أفلامها الغنائية الشركة الكبيرة التى كانت تعمل بها من الإفلاس، والتى اضطلعت ببطولة عدد من الأفلام الكوميدية الضاحكة، التى أثبتت مقدرتها التمثيلية إلى جانب غنائها البديع.. إلى درجة أن كبير مخرجى أمريكا (ألفريد هيتشكوك) اختارها لبطولة أحد أفلامه التشويقية والبوليسية. وهناك أيضاً على سبيل المثال لا الحصر (بربارا سترايسند) التى لم تكتف بالغناء بل أظهرت مواهب تمثيلية عدة.. وقامت بإخراج عدد قليل من الأفلام. وكذلك الحال مع (جولى اندروز) التى أكدت مقدرتها الكوميدية إلى جانب قدرتها الغنائية فى عدد آخر من الأفلام. ولكن تظل هذه الأمثلة قليلة فى عددها.. رغم حجم وشهرة مغنياتها.. إلى جانب هذه الظاهرة التى غطت سماء السينما المصرية.. منذ أن دخلت هذه السينما حيز السينما الناطقة، وتخلصت من عبء الصورة وحدها.. وهكذا دخل المطربون والمطربات المصريين من الباب الذهبى للسينما ليصبحوا أبطالاً مطلقين للأفلام المصرية خلال ثلاثة عقود كاملة، بل إن السينما المصرية لم تستمد نفوذها العربى وانتشارها، إلا بفضل هؤلاء المطربين، الذين أدمجوا الغناء بالتمثيل بأسلوب انفردت به السينما المصرية دون غيرها من سينمات الدنيا. كانت البداية مع عبدالوهاب والنجاح الأسطورى الذى حصده فيلم (الوردة البيضاء) رغم تواضع أداء عبدالوهاب الدرامى.. كذلك كان الشأن مع أم كلثوم وفيلمها الأول (وداد) الذى حقق انتشاراً واسعاً.. لم تكن السينما المصرية تحلم به فى أرجاء الوطن العربي. وتوالى دخول المطربين والمطربات الساحة السينمائية.. والظهور بأفلام تتلوها أفلام رغم تواضع، أحياناً سوء أدائهم التمثيلى، ولكن شذت عن هذه القاعدة مجموعة أخرى من المطربات كان للسينما دور كبير فى تأكيد شهرتهن وشعبيتهن ونجاحهم.. ومن بين هؤلاء تقف بعض المطربات اللبنانيات فى موقع الصدارة مثل مصباح ونورالهدى وأسمهان فى حيز صغير لم تستكمله تماماً.. بسبب غيابها التراجيدى وهى فى شرخ الصبا. وردة.. حاولت بعدد من الأفلام أن تثبت قدرتها التمثيلية إلى جانب تفوقها الغنائى.. ولكنها لم تستمر فى تجربتها واعترفت بعجزها عن أن تصل فى التمثيل إلى المستوى الذى وصلت إليه فى الغناء، فآثرت الابتعاد حفاظاً على مكانتها، وكذلك فعلت زميلتها فايزة أحمد بعد عدد صغير من الأفلام لم تستطع إثبات نفسها فيها كممثلة. وحدها ليلى مراد.. استطاعت أن تجمع بين تفردها الغنائى، وتنوع أداءها التمثيلى فى أدوار مختلفة تحت إدارة توجو مزراحى أو أنور وجدى الذى حولها من مطربة إلى نجمة استعراضية إلى جانب حضورها الدرامى المميز. وفى هذا المجال.. يمكنن أن نذكر بإعجاب مسيرة الفنانة شادية التى بدأت مغنية خفيفة الظل.. ومبهجة الصوت.. إلى ممثلة درامية مقتدرة وقادرة على حمل عبء فيلم درامى كامل على كتفيها دون أن تغنى.. ولعلها المطربة الوحيدة من مطربات مصر التى قبلت هذا التحدى واجتازته بنجاح ملحوظ. ظاهرة الممثلات المطربات ظاهرة فريدة تميزت بها السينما المصرية، وطبعتها بطابعها، ولا يمكن لأى باحث فى السينما المصرية أن يتجنب الحديث عنها إذا أراد أن يروى تاريخ سينما بلاده.