المرة الأولي التى سمعت فيها اسم نور الشريف.. كانت من خلال حديث دار بينى وبين المخرج الكبير صلاح أبوسيف فى دمشق.. كنت أسأله آنذاك عن الآمال الشابة فى السينما المصرية التى يمكن أن تخلف جيل العمالقة الكبار.. فكر أبوسيف قليلاً.. ثم نطق باسم واحد «نور الشريف». لم أكن قد سمعت قبلها بهذا الاسم.. ولم يتسن لى بعد أن أشاهد أى واحد من أفلامه القليلة التى مثلها.. لكن الاسم ظل قابعاً فى أعماق ذاكرتى.. واستحضرته من جديد.. عندما أخبرنى حسام الدين مصطفى أثناء إعدادنا لرواية ديستوفسكى الشهيرة »الأخوة كارامازون« للسينما المصرية.. أنه يفكر فى إسناد دور إيفان كارامازون لنور الشريف. إيفان كارامازون واحد من ثلاث شخصيات تعتبر الأهم فى تاريخ الأدب العالمى هاملت شكسبير وفاوست جوته.. وإيفان كارامازون. إنه كتلة من العواطف المتناقضة التى تمثل الصراعات الأساسية فى النفس الإنسانية.. إنه مثال للتمرد العقلى ولمواجهة الإنسان مع قدره.. يتردد بين الشك والإيمان.. ويعيش حلقات متواصلة من الصراع النفسى الذى لا ينتهى، وتتحول مأساته العائلية.. إلى مأساة كونية.. تمثل فئة خاصة من البشر كانت على مر العصور مصدر النور والقلق وإثارة التساؤلات. كيف يمكن لممثل شاب أن يلعب مثل هذا الدور شديد التعقيد وشديد الأهمية.. وما هى جذوره الثقافية والنفسية التى يمكن أن تؤهله ليكون جديراً به. وعدت إلى فلموجرافيا نور الشريف.. أتأملها.. قبل أن أتعرف على هذا الفنان المذهل شخصياً.. وارتبط معه بصداقة فنية وروحية أزهو بها وأفاخر الجميع بقيمتها وثرائها. واكتشفت أن فلموجرافيا.. نور والتى سبقت الأخوة الأعداء كانت تشمل أفلاماً كثيرة مهمة.. كانت هى السبب الرئيسى الذى جعل أبوسيف يعتبره أهم شخصية فنية للأعوام المقبلة. كانت هناك السكرية، وقصر الشوق.. وكان هناك »السراب« ودوره المدهش فيه، وكان هناك »زوجتى والكلب« ثم »الخوف« اللذان جمعاه مع سعيد مرزوق وسعاد حسنى.. وأفلام أخرى كثيرة.. أكدت نضوج هذا الفنان ووعيه وبصيرته الفنية النافذة ما أثار إعجابى ولهفتى على التعاون مع نور الشريف.. ممثلاً.. ومنتجاً.. وفناناً.. وإنساناً.. هو هذا الوعى الثقافى الكبير الذى يتمتع به.. وهذا الفهم الجميل للقراءة والاطلاع.. وهذا العشق اللامتناهى للمسرح وأقطابه الكبار.. وهذا الحلم المتوهج الذى يسكن قلبه.. والذى دفعه بالمغامرة باسمه وماله.. ليقدم أفلاماً مقتبسة عن أعمال عالمية ومحلية أخرى وعشقها حتى الثمالة. اقتحم عالم تنسى ويليامز الصعب والمعقد.. فى اثنتين من أشهر مسرحياته »قطة على نار« و»الزمار« المأخوذ عن مسرحية هبوط اورفيوس.. واقتحم عالم سترندرج بفيلم »آلخادم« المأخوذ عن مسرحية الآنسة جوليا.. والذى كان مقدراً له أن يخرجه فاضل صالح.. ولكنه لم ير النور لأسباب كثيرة.. كما لم ير النور أيضاً فيلم الرغبة نحن شجر الدرداء، لأوجين اوتل، وثقوب فى الثوب الأسود قصة إحسان عبدالقدوس.. رغم الانتهاء من كتابة السيناريوهات الخاصة بها، وموافقة الرقابة عليها. نور الشريف.. منتجاً.. أتاح الفرصة لكبار المخرجين الذين يحتلون الصدارة الآن يتقديم أفلامهم الأولى.. مثل سمير سيف (دائرة الانتقام)، ومحمد خان (ضربة شمس)، وعاطف الطيب (الغيرة القاتلة)، ومحمد النجار وداوود عبدالسيد.. وحقق الطلبات المستحيلة التى طلبها حسين كمال، ليخرج فيلم (حبيبى دائماً) بالشكل الذى خرج به.. وليصبح أيقونة العشق فى السينما المصرية. نور الشريف.. بقامته الفنية الشاهقة.. ووعيه الإنسانى.. وثقافته الشاملة.. وحسه الفنى الصادق.. زهرة عملاقة توضع جنباً إلى جنب الزهور العملاقة الأخرى التى صنعت الفن المصرى الحديث.. عطره النفاذ ملأ سماءنا الفنية وظله الكبير خيم على إنتاجنا السينمائى وجعله قادراً حقاً على تحدى الزمن.