علي مدي الايام الماضية حاولت كثيرا الكتابة.. وفي كل مرة كانت صورتها تملأ الشاشة.. وكنت دائما أغلق الكمبيوتر واستسلم للحزن وأغالب الدموع التي لم اذرفها من قبل.. ويصرخ في داخلي صوت الالم وهو يناجي الواحد القهار بأن يمنحني الصبر الجميل.. فالموت اصعب المصائب في هذه الحياة.. هو سبحانه وتعالي وصفه بذللك : " فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ "المائدة : الآية106". ولكني هذه المرة تذكرت ما كانت هي حريصة عليه وهو أن الحياة لابد أن تمضي كما خلقها الله واننا لابد ان نرحل منها ذات يوم.. وان الموت قدرنا جميعا ولايبقي من الانسان بعد وفاته الا ولد صالح يدعو له أوعمل ينتفع به أوصدقة جارية كما قال رسولنا صلي الله عليه وسلم.. وهي بحمد الله لديها هذه الثلاث الباقيات في الدنيا بعد الرحيل. لقد كانت وفاتها مفاجاة لي.. قبلها بيوم واحد كنت معها تليفونيا.. لاحظت ان كلماتها كانت مقتضبة وهي تسأل عن الاولاد وتحاول انهاء المكالمة بسرعة.. بحجة انها في المطبخ.. وعرفت بعد ذلك انها كانت تعاني من نزلة برد ولاتريدني ان اعرف.. هكذا كانت دائما تفعل .. تهتم بنا جدا وتسعي بكل الطرق لاخفاء مرضها عنا حتي لا تقلقنا وتجنبنا عناء السفر للاطمئنان عليها.. وفي كل المرات كنت اكتشف ذلك واتصل بها ثانية للاطمئنان او الذهاب اليها.. الا هذه المرة التي لم اشك في مرضها فقد كان صوتها طبيعيا.. نجحت في اخفاء معالمه تماما.. وبعد الفجر بوقت قصير جاءني صوت شقيقي وهو يقول بدموعه ان الله اختار الوالدة.. لا اله الا الله .. اغلقت التليفون وسبقتني الدموع وانا ادعو الله ان يتغمدها برحمته وعلي مدي ساعتين قطعتهما السيارة من القاهرة الي مدينة المحلة الكبري كانت صورتها حاضرة امامي ومازالت لم تفارقني وانا اكتب هذه الكلمات بعد عشرة ايام من الحزن. * * * اصر الوالد اطال الله في عمره علي الا ترفع أية فتاة او سيدة صوتها.. الحزن في القلب والدموع تخفف الحزن والدعاء لها بالرحمة من تعاليم الاسلام.. دخلت المنزل لأراه شاحبا لاول مرة.. الحزن يخيم عليه.. والسواد يلف كل جوانبه.. الاقارب والجيران يملأون البيت.. اناس اراهم لاول مرة.. كانت امي رحمها الله تجمعهم بسيرتها الطيبة وخيرها الذي امتد لمناطق بعيدة وجاءوا كلهم الان يدعون لها. بان يكرمها الله سبحانه وتعالي وان يسكنها فسيح جناته.. وبين الدموع التي فشلت في اخفائها ..لم استطع ان ألقي عليها نظرة الوداع.. فعندما اقتربت من جسدها الطاهر وهو ملفوف.. راحت احدي القريبات تنزع الغطاء عن وجهها.. اعترتني هزة دامعة وعدت للخلف.. هذه اصعب لحظات العمر لا استطيع ان اري وجه امي بلا روح.. وهي التي كانت تملأ حياتنا كلها بالحيوية.. كيف اراها الان جسدا بلا حراك وهي التي كانت تحركنا جميعا.. وكنت انا بالذات اعرف ذلك تماما.. ففي كل المناسبات كانت حريصة علي ان تنبهني بان اتصل باقاربي لأعزي هذا واهنئ ذاك واطمئن علي هذا واقول كلمة تهدئ فلانة.. فقد كانت تعرف انني لست اجتماعيا بما فيه الكفاية وان كثيرا من المجاملات الاجتماعية تفوتني ولا انتبه لها بحكم عملي.. الان بكل اسف ستنقطع الجسور بيني وبين كثيرين لاني لن اجد من يذكرني ويدفعني اليها. * * * قال تعالي: "كُلُّ نَفْسي ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور" ِ"آل عمران:185". لما حضرت عبادة بن الصامت الوفاة . قال : أخرجوا فراشي إلي الصحن ثم قال : اجمعوا لي موالي و خدمي و جيراني و من كان يدخل علي فجمعوا له .... فقال : إن يومي هذا لا أراه إلا آخر يوم يأتي علي من الدنيا . وأول ليلة من الآخرة . وإنه لا أدري لعله قد فرط مني إليكم بيدي أو بلساني شيء . وهو والذي نفس عبادة بيده . القصاص يوم القيامة . وأحرج علي أحد منكم في نفسه شيء من ذلك إلا اقتص مني قبل أن تخرج نفسي. فقالوا : بل كنت والدا و كنت مؤدبا. فقال : أغفرتم لي ما كان من ذلك؟ قالوا : نعم. فقال : اللهم اشهد ... أما الآن فاحفظوا وصيتي ... أحرج علي كل إنسان منكم أن يبكي . فإذا خرجت نفسي فتوضأوا فأحسنوا الوضوء . ثم ليدخل كل إنسان منكم مسجدا فيصلي ثم يستغفر لعبادة ولنفسه . فإن الله عز وجل قال : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا علي الخاشعين ... ثم أسرعوا بي إلي حفرتي . ولا تتبعوني بنار. * * * تبدو الدنيا من بعدها غابة موحشة.. المنزل الذي كان يعج بالحياة صار الفراغ فيه واسعا جدا.. كانت تملأه وهي سعيدة بابنائها واحفادها.. والان لن يجد الاحفاد الجدة التي كانت تحتضنهم وتطعمهم ولاتنام قبل ان تطمئن عليهم جميعا. كان اسمها : زاهية .. وستظل زاهية في القلب حتي تنقطع بي اسباب الحياة.