أمام احدي اللجان الانتخابية وقف مواطن يسأل بلا حرج: كم بلغ سعر الصوت الآن؟ .. جاءه رد من أحد الواقفين يقول: ما زال السعر منخفضاً.. فقال المواطن: إذن ننتظر! هكذا لسنا إزاء جريمة شراء أصوات ناخبين من قبل مرشحين أو أعوانهم. وإنما نحن إزاء جريمة أفدح هي جريمة بيع ناخبين أصواتهم وبأعلي سعر! وبالطبع نحن لا نجرؤ علي الادعاء بأن الأصوات التي حصل عليها من فازوا في الانتخابات أو سوف يخوضون جولة الإعادة هي أصوات مشتراه.. فهذا تعميم غير مقبول. ولا يستند إلي ما يثبته ويؤكده ولكننا في ذات الوقت لا نستطيع أن نتجاهل وقوع هذه الجريمة في يوم الانتخابات البرلمانية الحالية. وربما يتكرر وقوعها في جولة الاعادة .. ولذلك بات الأمر يحتاج منا لاهتمام خاص لمواجهة هذه الجريمة الانتخابية لنخلص انتخاباتنا البرلمانية وغير البرلمانية منها وننقذ مرشحينا وناخبينا منها. والتفسير الشائع لوقوع هذه الجريمة هو الفقر والعوز والحاجة.. أي أن الفقر هو الذي يدفع بعض الناخبين لبيع أصواتهم لمن يشتريها من المرشحين بأعلي سعر. بغض النظر عن قناعة الناخب في صلاحية هؤلاء المرشحين. أو بالأصح قناعة الناخب بعدم صلاحية هؤلاء المرشحين لتمثيله في البرلمان. لكن في الهند يوجد أكبر عدد من الفقراء. وما زال الفقر رغم التقدم الاقتصادي يمثل مشكلة هندية.. ومع ذلك فإن الهند تعتبر من الديمقراطيات النموذجية في العالم والتي يتباهي بها أهلها. والانتخابات فيها لا تعرف ظاهرة بيع الأصوات سواء بأعلي أو أقل سعر.. أي أن الفقر لم يحض أهلها والناخبين فيها علي بيع أصواتهم. إذن.. لا بد أن هناك سبباً آخر وراء ظهور هذه الجريمة لدينا وعدم ظهورها في الهند التي يوجد لديها فقراء أكثر منا وأكبر عددا. وربما يمكن التعرف علي هذا السبب إذا توقفنا بقدر من التحليل أمام هذه الجريمة .. فهي جريمة ليست فردية.. ولكنها جريمة متعددة الأطراف مثلها كجريمة الرشوة.. فهناك مشتر للصوت الانتخابي وهناك أيضا بائع لهذا الصوت.. والمؤكد أن المشتري هنا وهو الناخب أو أحد أعوانه يسعي لغواية الناخب لشراء صوته من أجل أن يضمن حصوله علي المقعد البرلماني الذي يعد بالنسبة له هدفا كبيرا وضخما يهون من أجله دفع الثمن المطلوب.. وبالطبع تعرض ناخبين للغواية يدفع بعضا منهم للسقوط والضعف للقبول في نهاية المطاف بالحصول علي ثمن مقابل منح صوته الانتخابي للمرشح الذي يعرض الثمن.. والتحريض علي بيع أصوات الناخبين بات يمارس الآن علنا وبلا خجل. باعتبار أن الغاية تبرر الوسيلة. مهما كانت بشاعة أو فساد هذه الوسيلة. أو كانت هذه الوسيلة تلحق الضرر والأذي بالتجربة الديمقراطية. لكننا مع ذلك لا يمكن أن نعول علي تحريض سماسرة الأصوات.. الناخبين علي بيع أصواتهم لتفسير وقوع هذه الجريمة.. لأن هناك ناخبين كثيرين لا ينجح هؤلاء السماسرة في غوايتهم.. هناك ناخبون كثيرون لا يضعفون ولا يخضعون للإغراء والغواية ويرفضون بإباء بيع أصواتهم. ويمنحون هذه الأصوات لمن يعتقدون أنهم يصلحون في تمثيلهم في البرلمان. حتي وإن كانوا متأكدين من صعوبة فوزهم في الانتخابات لأسباب أخري لا علاقة لها بالصلاحية أو الكفاءة. وهذا يجعلنا نفتش عن سبب آخر بالإضافة إلي غواية المرشحين وأعوانهم للناخبين لنفسر به وقوع جريمة بيع الأصوات في الانتخابات.. ويدفعنا إلي ذلك تلك الحالات التي يجسدها ذلك المواطن الذي ذهب من تلقاء نفسه يبحث عن أعلي سعر لصوته قبل أن يدلي به في الصندوق الانتخابي. وبدون غواية أو تحريض من أحد. ولعلنا نجد هذا السبب في بعض القيم الاجتماعية المذمومة التي غزت مجتمعنا خلال السنوات الأخيرة. والتي أقنعت البعض منا أن كل شيء قابل للبيع والشراء. أو أن كل شيء له ثمن صغر أو كبر هذا الثمن.. لا فرق بين السلعة والذمة.. ولا فرق بين الذمة والضمير.. هنا لا يجد مثل هذا النوع من الناخبين غضاضة أو شيئا غير طبيعي في بيع صوته وبأعلي سعر. ما دام كل شيء قابلاً للبيع والشراء.. بل انه علي العكس يجد بيع صوته بأعلي سعر نوعاً من الشطارة والمهارة.. لذلك ينتظر اقتراب موعد اغلاق صناديق الانتخابات لكي يحصل علي أعلي سعر لصوته مثلما فعل صاحبنا هذا. وهذا يعني أننا نحتاج لمقاومة جريمة بيع الأصوات وشرائها في الانتخابات إلي تغيير في منظومة القيم الاجتماعية أولا.. أي اننا نحتاج لسيادة قيم جديدة تحرم بيع الذمم وبيع الضمائر حتي لا يتسابق بعض الناخبين لبيع أصواتهم في الانتخابات. ويحجبون بذلك مقعدا برلمانيا عن مرشح يستحقه. أو يمنحون مقعدا برلمانيا لمرشح آخر لا يستحقه. ولكن حتي يتحقق ذلك. وهو يحتاج لوقت طويل. فإننا نحتاج لقانون صارم يجرم بيع وشراء الأصوات في الانتخابات يعاقب المشتري والبائع معاً. وإن كان يتعين أن تكون عقوبة المشتري أكبر.