زهاء سبعة وستين عاما تمر علي ارتقاء أرواح الخمسين شهيدا إلي سماء الوطن. نعم لم يكن الوطن أرضا فقط بل كل محيط هذه الأرض كما نصت دساتير مصر جميعها أن يحمي مقاتلوها الوطن برا وسماء وبحرا وهكذا علي مر الزمان لم تغادر هذه الأسماء البطلة أوطانها كما لم تفارق وجدان أهلها. لم يزد الزمن ذكراها إلا نضجا وحيوية وما كان عمر النصر إلا بعمر العزيمة في صدور الرجال والتي مازالت صلبة وللأبد وما كان بقاؤه في ذاكرة التاريخ إلا بقدر بقائه في وجدان الشعوب وما كان الزهو بالنصر ليبقي لولا بقاء الإرادة في الحفاظ عليه وللأبد ومازال الشهيد ملهمنا الأول ومازالت صورته شاخصة جلية أمامنا تكحل أعين الوطن ومازال التاريخ يحفظ انفرادا للمقاتل المصري علي مر العصور وحده. المقاتل المصري الذي كانت له التحية من نده فسيذكر التاريخ علي مداره تحية العدو للمقاتل سيد زكريا عندما ظنوا انهم يحاربون سرية أو مجموعة صاعقة وتبين لهم بعد استشهاده انه الأسد سيد زكريا وتحية العدو بعد استسلامه للمقاتل زغلول فتحي الذي تسلم الموقع وأجبر عدوه علي تنكيس علمه ورفع البطل علم قواتنا المسلحة علي موقع لسان بورتوفيق وتحية عساف ياجوري بعد أسره في أكبر معركة دبابات في التاريخ الحديث في الثامن من أكتوبر لقناص الدبابات البطل محمد أحمد المصري وقائده البطل يسري حسان وقائده الأعلي البطل حسن أبوسعدة. نعم تفرد مقاتلكم وتميز علي غيره في أن ينال اعجاب وتقدير العدو والصديق ولم تكن التحية خلال حرب أكتوبر قط إنما كانت ايضا قبل عشرين عاما في معركة الاسماعيلية مع صباح 25 يناير 1952 حين كانت السماء تتجهز لاستقبال الخمسين شهيدا من رجال الشرطة المصرية بقسم شرطة الاسماعيلية واجهوا حصار قوات الاحتلال البريطاني لمبني القسم الصغير رفضوا الانصياع لانذار العدو المحتل وتسليم أسحلتهم ومغادرة موقعهم وأمام القوات البريطانية المتمرسة خلف دروع الدبابات السنتوريون والعربات المصفحة ومدافع الميدان والتي حاصرت قسم شرطة الاسماعيلية ومبني المحافظة بقوة عدادها سبعة آلاف جندي بريطاني بينما كان عدد الجنود المصريين المحاصرين لا يزيد علي ثماني مائة في الثكنات وثمانين في المحافظة لا يحملون غير البنادق والمسدسات واستمرت المعركة ساعتين هاجم فيها الانجليز قوة شرطة القسم بدباباتهم ونيران مدفعيتهم ولم يستطع الانجليز أن يتقدموا خطوة واحدة بتسليحهم الهائل إلا بعد سقوط 50 شهيدا و80 جريحا من الشرطة المصرية هم كل قوة القسم وأمام النصر الزائف لقوات الاحتلال لم يستطع الجنرال الانجليزي اكسهام أن يخفي اعجابه بشجاعة المصريين فقال للمقدم شريف العبد ضابط الاتصال وقتئذ: لقد قاتل رجال الشرطة المصريون بشرف واستسلموا بشرف ولذا فإن من واجبنا احترامهم جميعا ضباطا وجنودا وقام جنود فصيلة بريطانية بأمر من الجنرال اكسهام بأداء التحية العسكرية لطابور رجال الشرطة المصريين عند خروجهم من مبني المحافظة ومرورهم أمامهم تكريما لهم وتقديرا لشجاعتهم النادرة وفي كل عام مع ضخ دماء جديدة كمشاريع شهداء لازال يتردد الصدي في الأنحاء بأوامر قائد طابور العرض وبصوت حازم وقاطع يملؤه الفخر: سلام الشهيد لتعزف الموسيقي العسكرية سلاما لروح تحلق فرحا في سماء الكليات الشرطية والعسكرية وينتفض الجميع وقوفا كأسنة الرماح إجلالا لاسم الشهيد وترتفع الهامات مصحوبة بأداء التحية العسكرية لهذا العظيم "شهيد الوطن" وتبرق الفرحة في أعين الأمهات الثكلي والزوجات الأرامل إذ ان الوطن مازال يتذكر بفخر أنقي من فيه من الرجال "الشهيد" وتتكرر الحكايات الواحدة تلو الأخري. وتلوح في الأفق دمعة تترقرق علي وجنتي "أميرة" العروسة الشابة التي كانت تستعد ليزفها والدها متأبطة يمينه إلي أولي عتابات الغد مع عريسها إلا ان الوطن كما يقولون ويفعلون غالي وتهون له الدماء الذكية فاختار والدها البطل أن يؤمن حياتها بحياته وغدها بغده وللمرة الأولي يقدم والد العروس مهرا بدلا من أن يأخذ! وللمرة الأولي يطلب رئيس الدولة أن يمسك بيد العروس ليلة عرسها ويزفها إلي الغد ليس عوضا عن والدها الشهيد العظيم بل تكريما لاسمه وعرفانا لجميله تجاه وطنه. أيما شرف لهذه العروس هي ابنة أعظم من فينا ويزفها مائة مليون أب ممثلا في شخص رئيس الدولة. نم قرير العين أيها الشهيد فوراؤك فارس يحتفل صبيحة العيد مع اطفالك ويمد يده ليرسم بسمة علي وجوه البراءة ويزف كريمتك وبعد أن تنتهي الموسيقي العسكرية من أداء سلام الشهيد وبعد أن يقف الجميع اجلالا للشهيد يظل العلم يرفرف متجاورا مع سيفه المسلول في مشهد مهيب تزلزل أركانه حناجر الشباب من الفرسان الجدد ولم لا يقبلون علي الشهادة وهم ورثوها أبا عن جد؟ ومن جديد يتردد في الانحاء قسم الولاء.. اقسم بالله العظيم.. اقسم بالله العظيم.. اقسم بالله العظيم.. ان أكون جنديا وفيا لجمهورية مصر العربية محافظا علي أمنها وسلامتها حاميا ومدافعا عنها في البر والبحر والجو.. إلي أن ينتهي القسم بعقد العزم علي الشهادة في سبيل الله دون أن يتأذي الوطن أو المواطن فيقسم الفارس "ومحافظا علي سلاحي لا أتركه قط حتي أذوق الموت الله علي ما اقوله شهيد" نم قرير العين أيها العظيم الشهيد.