كثير من الجيل الحالي من الصحفيين بجريدة "الجمهورية" لا يعرفون الصحفي المخضرم الكبير الأستاذ فاروق فهمي نائب رئيس تحرير "الجمهورية" ورئيس تحرير كتابها الشهري الذي عرفنا خبر وفاته للأسف من نعي نقابة الصحفيين الذي نشر أول أمس عقب عيد الأضحي. هذا الصحفي القديم من أبناء الستينيات في جريدة "الجمهورية" الذي أخرج نفسه بنفسه من المهنة منذ 20 عاماً ليصبح من أهم الناشرين في عالم الكتب خاصة السياسية منها التي تناولت أسرار ثورة يوليو 1952 وأشهرها كتبه عن عبدالحكيم عامر وصلاح نصر ومحاكمات نكسة 67. كان لي شرف التتلمُذ علي يديه في منتصف الستينيات من القرن الماضي ونحن طلبة في كلية الإعلام بجامعة القاهرة عندما كلفه الراحل الكبير الأستاذ محسن محمد رئيس تحرير الجمهورية وصاحب مدرسة تطويرها بإنشاء قسم لتدريب الشباب عملياً بالجريدة.. وقد سبقني في هذا القسم الزملاء والأساتذة السيد البابلي وفهمي عنبه وحسن الرشيدي ومصطفي عمارة وزاملني صحفيون كثر منهم الراحلة نهال عرفان والأستاذ صلاح عبدالمنعم وأسامة عجاج من الأخبار وغيرهم الذين عمل بعضهم في صحف أخري. وشركات كبري في العلاقات العامة والإعلام وإن ظلوا يحتفظون بذكرياتهم في جريدة الجمهورية. وقد كان أهم ما يميز أستاذنا فاروق فهمي علاقاته الواسعة ومحبته لكل الزملاء كباراً وصغاراً ومعها اعتزازه بشخصيته وكرامته حتي إنه عندما بلغ عامه الستين منذ نحو 20 عاماً وكان يشغل وقتها رئيس تحرير كتاب الجمهورية رفض أن يكتب طلباً لرئيس مجلس الإدارة في هذا الحين مثل سائر الصحفيين الذين يفرض عليهم القانون هذا الطلب باعتقاد منه أن الصحفي لا يحال إلي المعاش.. وهو نفس المأزق الذي يشعر به الآن غالبية الزملاء الصحفيين خاصة بعد صدور قانون هيئة الصحافة الحالي الذي يضع الصحفي في حرج أمام رئيس التحرير أو رئيس مجلس الإدارة يقبل أو يرفض طلبه.. وقال لي وقتها: إن أهم ما يجب أن يتصف به الصحفي هو حفاظه علي كرامته وأن الدولة أو من ينوب عنها في الإدارة إذا أرادت استمراره فلتفعل ذلك بشكل تلقائي منعاً للحرج وبغض النظر عن أي مقابل مادي لا يتوقف عنده الصحفي كثيراً خاصة إذا كان محباً لمهنته مرتبطاً بصحيفته ومصادره وقرائه الذين يتابعونه عبر الصحيفة دون أن نعرف الكثير منهم إن كان شاباً أو عجوزاً مخضرماً. وأعتقد أن الأستاذ فاروق فهمي هو الصحفي الوحيد بين معظم الزملاء الكبار الذين أعرفهم الذي لم يجدد له.. وواصل عشقه للمهنة من خلال عملية النشر التي وجد فيها نفسه وأشبع من خلالها عملية الكتابة الصحفية وعلاقاته وتواصله مع شخصيات كثر ومسئولين كبار في كافة المجالات كان علي تواصل معهم حتي آخر أيام حياته. *** أشعر بالحزن الشديد علي هذا الأستاذ الغالي الذي علمني أهم وأول درس عملي في الصحافة وهو الاعتزاز بمهنة الصحافة بعيداً عن أي تيارات سياسية أو حزبية مؤكداً أن أهم ما يجب أن يتميز به الصحفي هو الاستقلال الذاتي والحياد الذي يجعله يعرض كل الآراء والأفكار والاتجاهات بموضوعية وأمانة وحياد دون غرض أو هوي.. كما كان يؤكد دائماً علي أن الصحفي يجب أن يكون دارساً لأي موضوع يتناوله بدقة وعمق تصل إلي حد البحث وتوصيل هذا الموضوع إلي أبسط قاريء دون "تعالي" عليه في كلمات بسيطة واضحة لا تجعله يشعر بالضيق أو الملل.. وأنه ليس هناك مشكلة أن يمضي الصحفي أياما طويلة من أجل الحصول علي خبطة صحفية وأن يقرأ رسالة جامعية طويلة للخروج منها بموضوع صغير أو حتي خبر. ومن المفارقات الغريبة أن الراحل فاروق فهمي واجه مشكلة عدم سؤال الصحفيين عن بعضهم البعض خاصة الكبار منهم بانتظام.. حتي أنه تعرَّض لشائعة سخيفة بأنه قد مات بعدما انقطع لعدة شهور بسبب عملية جراحية في ساقه عن التردد علي النقابة لقضاء بعض الوقت أو الحصول علي خطابات تلقي العلاج من مشروع العلاج بالنقابة. وذهبت أسأل عنه فلم أتمكن من الوصول إلي منزله في منشية البكري وخرجت أرقام هاتفه من الخدمة ونجحت الأستاذة سهام عطا الله مسئولة النقابة عن جدول الصحفيين في مساعدتي في التواصل معه من خلال تليفونه الآخر الذي افتقدته.. لأهاتفه وأنا أشعر بسعادة غامرة أنه علي قيد الحياة دون أن يشعرني بتقصير مني في عدم السؤال عنه منذ فترة وقد أجري عمليتين جراحيتين دون أن يعرف أحد. وكان آخر اتصال معه قبل عيد الأضحي بعدة أسابيع ظل كعادته يسألني عن الجريدة وأحوال الزملاء وصحتهم.. وعندما أخبرته أن بعضهم ليس في صحة جيدة قال لي بعفويته: بالطبع لابد أن يشعر أي إنسان بالتعب ولا يجب أن يخشي المرض لأن هناك تقدماً طبياً كبيراً يمكن أن يحل أي مشكلة. ولكن ما لم يقله لي الأستاذ فاروق فهمي صاحب القلب الطيب والشخصية الآثرة أن الموت الذي يأتي بغتة ليس له علاقة بالمرض ولا يملك الطب أو الأطباء ازاءة أمراً. رحم الله الكاتب والصحفي القدير فاروق فهمي وأدخله فسيح جناته.. وكل العزاء لأسرته وتلاميذه وأحبائه.. وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.