منتدي شباب العالم الذي انطلقت فعالياته مطلع هذا الأسبوع من شرم الشيخ . بقدر ما كان رسالة سلام موجهة من مصر لشعوب الأرض كافة فهو رسالة أمل وتفاؤل بمستقبل هذا الوطن القادر بشبابه وكوادره علي التأثير والجذب وصناعة الأحداث المهمة.. أما الأمل فهو بشارة النصر علي الإرهاب والعنف وأعداء البشرية المتآمرين الضالعين في تمويل الإرهاب وإزهاق أرواح الأبرياء.. وأما التفاؤل فمبعثه تلك الروح التي ظهر عليها شبابنا وشباب العالم الذين أبهروا الدنيا بكلماتهم وأفكارهم ومحاكاتهم وتساؤلاتهم وحكاياتهم المؤثرة والمؤلمة التي تعبر بوضوح عما آلت إليه أحوال البشرية من قسوة وانتكاسة وظلم وقتل ودمار واستهانة بالإنسانية وروح الحضارة والتسامح والحوار وقبول الآخر..وسادت في المقابل الأطماع والأهواء والمصالح الضيقة لبعض الدول التي تورطت في خلق داعش وأذياله . أو غضت الطرف عن جرائمه . أو وفرت له الدعم اللوجيستي والمعلوماتي حتي عاث في أرضنا تخريبًا وهدمًا وتقتيلاً وتمزيقًا وتفتيتًا للدول المغلوبة علي أمرها . الرسالة الأولي للمنتدي الشبابي قالها للعالم بوضوح: نريد أن نحيا في أمن وسلام .. وكفي ما ذاقته الشعوب المسالمة من ويلات الحروب والصراعات المفتعلة والفتن التي يحيكها أعداء البشرية من وراء حجاب . أو علي مرأي ومسمع من الدنيا كلها .. دون أن يطرف للمجتمع الدولي جفن أو يتحرك له ضمير. المشهد كان ناجحًا ومعبرًا بامتياز عما آلت إليه البشرية . وما تمثله مصر الحضارة والتاريخ في هذا الوقت العصيب لدرجة أنني تمنيت أن لو كان كل رؤساء الدول الكبار موجودين في هذا المنتدي ليروا ويسمعوا ويعقلوا ما تكنه صدور الشباب وما يدور في عقولهم وتحويه ضمائرهم من أوجاع وآمال . وما تنطق به ألسنتهم من بلاغة و ما تحمله أذهانهم من فكر عميق وفهم سديد وإلمام تام بما يجري حولهم . وجرأة لم تتوفر لكثير ممن سبقهم. وقلق مشروع علي مستقبلهم في ظل تناحر وتآمر وتأجيج نار الحروب .. حتي تمنيت في نفسي أن تدرس هذه المشاهد والكلمات والمناقشات حول أهم ما يشغل العالم من قضايا لأجيالنا الجديدة حتي نشحذ هممهم ونزيدهم ارتباطًا بالوطن وشعورًا بالفخر والاعتزاز به . المنتدي قدم للعالم صورة حقيقية عما يجري في أرجائه بعيون شباب غير مسيس » فقد تناول أزمة اللاجئين ضحايا الحروب وكيف أصبحوا بلا مأوي ولا عنوان بعد أن أجبروا علي ترك ديارهم في سوريا والعراق واليمن وغيرها ثم عرج إلي قضايا الهجرة غير الشرعية التي هي إحدي وجوه غياب العدالة وانعدام تكافؤ الفرص والفقر والبطالة . ثم تغيرات المناخ التي تهدد العالم في أهم مقومات حياته .. ولم يغفل المنتدي آفة العصر .. الإرهاب وروافده ومسبباته وآثاره الكارثية وكيف أنه نتاج لأفكار مغلوطة ومفاهيم خاطئة وقع الشباب ضحية لها وفريسة في براثن أصحابها ومروجيها .. من المشاهد المؤثرة المبكية في المنتدي .. ما قالته الفتاة الإيزيدية لمياء حجي بشار . وجاء كاشفًا لبشاعة الجرائم التي تعرضت لها تلك الفتاة العراقية علي يد تنظيم داعش الإرهابي .. وازدادت المأساة بما رواه الشاب اليمني سهيل عبد المغني عن مأساة بلاده التي لم تعد كما كانت سعيدة بفضل الحرب الطاحنة التي أخرجت أكثر من 5 ملايين طفل من مدارسهم التي جري تدمير 70% منها. ثم عادت بشائر الأمل في كلمات الشابة المصرية غادة والي التي قالت إنه المستحيل أن ينال التطرف والإرهاب من جيل نشأ علي الفن والشعر والموسيقي . فالتواصل الفعال هو اللبنة الأساسية في بناء مجتمعات متصالحة . المنتدي كان فرصة قيمة لعرض تجارب الشباب ورؤاهم وأفكارهم حول التعليم وصناعة قادة المستقبل والاستثمار وغيرها وهي قطعًا أفكار تستحق التأمل والدراسة» لأنها ببساطة خارطة طريق لفهم قادة المستقبل وكيف سيكون العالم تحت قيادتهم .. وكم أرجو أن يتمعن صناع الدراما والسينما والإعلام في مصر فيما قاله شباب العالم في شرم الشيخ .. ولو فعلوا ذلك لأدركوا كم قصروا في حق هذا البلد . حتي تخلف الإعلام والفن عن ركب العصر وتخاذل عن أداء دوره في معركة الوجود مع الإرهاب والتطرف والجمود والفساد والتخلف والمرض والكسل والدجل والشعوذة و الفهلوة والسلبية .. ربما لو اشتبكت هذه القوي الناعمة مع مثل هذه القضايا بضمير حي ويقظة وفهم لتغيرت الحياة من حولنا ولأصبحنا شعبًا أكثر وعياً وإنتاجاً وإيجابية .. ولأدرك كل فرد فينا واجبه فأداه . فثمة حرب ضروس تتطلب التماسك والوحدة ولا تحتمل ما نراه من عبث وتخاذل وميوعة وإسفاف . كما أن ثمة فكراً دينياً في حاجة للتجديد . وأفكار متطرفة يلزمها التصحيح بأسانيد قوية تبدد سحب الظلام والتشدد التي غرق فيها بعض شبابنا فانحرفوا بلا وعي عن المسار. وانخرطوا بجهالة في جرائم الإرهاب..ولم يكن مجدياً أن تترك المعركة لجهة واحدة تتولي المواجهة بل كان ينبغي أن تنخرط كل مؤسسات الدولة وقوي المجتمع المدني فيها كل بسلاحه وعتاده . فالأزهر والأوقاف ودعاتهما منبع الوسطية والاعتدال والحجج الساطعة ومؤسسات التعليم والثقافة والشباب والكتاب والمفكرين والأحزاب والأسرة .. الكل مدعو لترجمة أفكار الشباب في منتدي شرم الشيخ إلي واقع علي الأرض .. فلم يعد مقبولاً تغييب الأمة عن قضاياها المصيرية وإغراقها في مسائل جدلية لا تقدم ولا تؤخر . ولم يعد لائقًا إغراق المجتمع في مستنقع " الدجل والخرافة " التي تروجها بعض المنابر الإعلامية .. بينما يجري التعمية علي دور علمائنا وسير حياتهم التي تقدم " قدوة حسنة " حقيقية تستحق المحاكاة والاستلهام بما قدموه من كفاح ونجاحات ورقي وتسامح ومنجزات أسهمت في إسعاد البشرية . آن الأوان أن نري دراما جادة هادفة ترعاها الدولة . وتحشد لها بحسبانها أحد أهم أدوات تشكيل الوعي والعقل والوجدان » ومن ثم لا يصح تركها في أيدي العابثين أو المفسدين أو المستهترين » حتي لا تصبح أجيالنا الجديدة لقمة سائغة أو سهلة القياد والتشكيل . تتقبل ما يُلقي إليها من مفاهيم مشوشة ومحتوي فارغ دون قدرة علي الفرز والتمحيص . نريد دراما جادة كالتي صاغتها عقول المبدعين في الزمن الجميل . فترسخت وبقيت في وجدان أجيال عديدة من المصريين والعرب . مرشدًا نحو قيم الحق والخير والجمال .. دراما تحرض علي التفكير والنقد والعمل والإنتاج والعلم والتجويد والإبداع والمشاركة السياسية والالتزام بقضايا الأمة ومكارم الأخلاق .. دراما تحارب الجهل والشعوذة والدجل والتواكل والسلبية والعادات المرذولة. ولا يصح والحال هكذا أن يترك أمر الدراما والسينما لضمائر القائمين عليها . بل مطلوب من الحكومة أن تبادر بتصحيح المسار ليس بالمنع والمصادرة . ولا بالتقييد والتضييق بل بطرح الأفضل فكرًا وإخراجًا وإنتاجًا لخلق توازن في المجال العام . يعيد للوعي وجهه المضيء وللإبداع قيمه الراقية . مطلوب دراما تفضي إلي إيقاظ العقل والضمير وتعبئة الناس لمعركة وجود يجري تغييبهم عنها بفعل فاعل حتي تصبح الحكومة في وادي والشعب ولاسيما شبابه في وادي آخر . نريد دراما تستقي مادتها من صحيح التاريخ وتعيد كتابة هذا التاريخ بروح موضوعية تحيي قيم النضال وسير الكفاح والولاء الوطني وتنعش الذاكرة بفترات الانتصار والازدهار . وبالقادة العظام الذين ضربوا للدنيا أروع الأمثلة في فن القيادة والعدالة والاقتدار .. نريد دراما جاذبة تستنقذ العقل المصري من غزو ثقافي يعرض له تقاليد غريبة وعادات شاذة لشعوب لا تربطنا بها أي روابط قومية .. نريد دراما تبث فينا روح الأمل وتنير مشاعل الحرية المنضبطة وتقدم حلولاً ناجعة لمشكلات مزمنة.. نريد دراما تعيد للعلاقات الاجتماعية والأسرية اعتبارها. وتحث علي صلة الأرحام والرفق بالأيتام والمساكين والفقراء واحترام الكبير والرأفة بالصغير .. دراما لا تتجرأ علي اقتراف المحارم حتي ولو كانت واقعاً يحياه البعض لكنه يبقي في أسوأ الأحوال استثناء لا يصح التركيز عليه أو لفت النظر إليه أو اعتباره مرضًا عضالا لا فكاك منه . فعبارة ناقل الكفر ليس بكافر حق أريد به باطل يبرر به أصحاب الهوي أفعالهم المشينة . فأفلام المقاولات والعري والعربدة والعنف لم تكن تعكس ظواهر اجتماعية بقدر ما كرست سلوكيات مشينة في مجتمعات سلمت عقولها للعابثين والمتربحين بالقبح والرذيلة . نريد دراما تعالج قضايا الوطن وتسلط الضوء علي البؤر المضيئة في حياتنا وقصص النجاح والتحدي وتجارب الأمل التي كانت سببًا في تقدم دول كانت أقل منا ثم سبقتنا.. القدوة الحسنة مطلوبة حتي يتباري شبابنا وصغارنا في تقليدها بدلاً من تقليد " الأسطورة" أو "الصياد" أو "ابن موت¢. علي الدولة أن تمد يدها لإنقاذ الفن والتعليم والثقافة حتي لا نظل ندور في حلقة مفرغة دونما إصلاح حقيقي يبدأ بالإنسان الرافعة الحقيقية لأي تقدم .. وعلي صناع الدراما أن يراجعوا أنفسهم وألا يتاجروا بهذا الفن الرفيع. وألا يكون همهم جمع المال وتقديم ما يطلبه المشاهدون وليس ما يفيدهم» فليس كل ما يشتهيه الإنسان يصب في صالحه .. عليهم أن يسألوا أنفسهم : هل قدمنا ما ينفع الناس أو يسند الدولة في حربها للإرهاب أو يزيد وعي المواطن بما يدور حوله حتي يصبح مؤهلاً لأداء دوره المنشود . وماذا عن المعركة الكبري مع الجهل والفقر والتطرف .. فإذا كانت الحكومة تحارب علي أكثر من جبهة . فهي مشغولة بدحر الإرهابيين . ومشغولة بتلبية الاحتياجات اليومية للمواطن . ومهمومة بالتنمية الشاملة .. ويبقي التحدي الأكبر هو حيازة ثقة المواطن واحتضان الشباب وتعليمهم وتوظيفهم وتوفير حياة كريمة لكل فرد في هذا الوطن . وإذا كان منتدي شباب العالم قد أبهرنا بحيويته وقوة فعالياته وجودة تنظيمه فإنه زادنا يقينًا أن العيب ليس في شبابنا بل في طريقة التعامل معهم وإعدادهم للمستقبل . فإذا توفرت لهم الرؤية والاهتمام وتكافؤ الفرص والعدالة والرعاية الكاملة لوجدنا جيلاً يحمل البلد علي كتفيه .. أما إذا بقيت منظومة التعليم علي حالها من بؤس وتخلف وقصور فلا تسأل لماذا تلقي المدارس والجامعات بخريجين دون المستوي شيمتهم الكسل العقلي والسطحية وسوء الفهم وانعدام الرؤية . التعليم والصحة والأمن والديمقراطية مقومات أي تقدم . فإن صلحت صلح المجتمع كله ووجد طريقه إلي النهوض . واختفت تلقائيًا آفات الفساد والجهل والمرض والتخلف .. ورغم أن تلك الأهداف ضمن اهتمامات الحكومة لكنها غير متحققة كما نريدها علي أرض الواقع وهو ما يحتاج إلي ثورة حقيقية لإصلاح التعليم بوصلة أي نهضة وقاطرتها الأولي .. وهو ما يتطلب إعادة الروح للتعليم والاحترام للتعليم الفني علي وجه الخصوص وهو أول واجبات الوقت . ورأيي أن الخطوة الأولي هي توفير المخصصات المالية التي أوجبها الدستور لوضعه علي خريطة التطوير وفقًا للمعايير العالمية .. فهو كما قال شباب العالم مفتاح الحل لكل مشكلاتنا .. رسائل منتدي شباب العالم كثيرة أهمها ما قاله الرئيس السيسي في الافتتاح بأن مكافحة الإرهاب حق أصيل من حقوق الإنسان .. لأنها باختصار تعني الحفاظ علي حق الحياة الذي يهدره أولئك الإرهابيون بلا حق ولا ضمير.. المنتدي نجح أكثر مما كنا نتوقع . وحقق أهدافًا عديدة فوق ما كان منشودًا وليته يتكرر علي نطاقات نوعيه أخري .. فليكن هناك منتدي للشباب العربي . وآخر للأفارقة حتي نبني جسور التواصل مع هذه الدوائر المهمة للأمن القومي المصري .