سأروي لكم حكاية قديمة.. ما دمتم تحبون "الماضي" وتتمنون عودته بإذن الله. كان يحرس مرمي نادي الزمالك حارس مرمي رائع اسمه يحيي الحرية إمام.. وكنا نختصر اسمه "يحيي إمام".. والد اللاعب الموهوب المرحوم حمادة إمام.. ظل يحيي إمام يحرس مرمي الزمالك سنوات طويلة جداً.. منذ أيام ما كان النادي اسمه "المختلط" ثم "فاروق" ثم "الزمالك".. حتي أصبح برتبة لواء بالجيش.. وكان كبار الزمالك وهم أصدقاؤه أصلاً.. كانوا يقولون له باستمرار: احترم نفسك وسنك. كفاية كده.. لقد اقتربت من الأربعين عاماً لاعباً!!.. وكان يحيي إمام مصراً علي الاستمرار في الملعب حارساً لمرمي الزمالك والفريق العسكري. وكان زمان فيه بطولة المناطق!!.. منتخب القاهرة مثلاً ضد منتخب إسكندرية. وكانت هذه هي مباراة القمة في مباريات المناطق.. وكان يحيي إمام أيضاً حارس مرمي القاهرة!!.. كانوا يقولون له: اختشي يا عجوز.. ولا يهمه. ويظل يتمرن ويلعب!!.. وتمر الأيام.. ويصعد الشبل الصاعد الواعد إلي الفريق الأول وهو ابنه حمادة إمام.. وأصبح يتمرن مع الفريق الكبير.. وذات يوم قال محمد حسن حلمي ليحيي الحرية إمام: ماذا تنتظر.. هل تنتظر ابنك يحرز فيك أهدافاً؟!.. ويضحك أعضاء النادي عليك في التمرين؟!!! هذه العبارة هي التي جعلت يحيي إمام يذهب فوراً إلي حجرة الملابس. ويأخذ ملابس الكورة. ويغادر النادي معلناً اعتزاله!!! * * * تذكرت هذه الحكاية "الحقيقية" صباح أمس وأنا أطالع الصحف. ورنت في أذني كلمتان: "ماذا تنتظر"؟!.. يحيي إمام لم ينتظر واحترم نفسه بسرعة.. حتي لا يضم الملعب الرجل وابنه!!.. جلست صباح أمس كله في حوار مع نفسي.. ملعب الصحافة يضم الرجال والسيدات. وأحفادهم أحياناً لا أبناءهم فقط!!.. وأرد علي نفسي وأقول: إن هذا كان زمان في ظل أخلاقيات زمان. حينما كان يحترم الأب ابنه عندما يكبر.. إن كبر ابنك "خاويه".. هذا المثل يقول للأب: اتخذ ابنك الكبير أخاً. واحترم آراءه.. أما الابن فيظل يحترم أباه طول عمره.. لا يشرب سيجارة في وجوده.. ولا يضع ساقاً علي ساق إذا جلس معه. ولا يقاطعه في الكلام. ولا يسفه آراءه.. ولا يصادر رأيه مهما اختلفت وجهات النظر.. الملعب الصحفي الحقيقي كان زمان.. حينما كان صاحب الجريدة رأسمالي لأبعد الحدود. ومعظم المحررين شيوعيون لأبعد الحدود!!.. لذا كان فيه صحافة. وكان فيه قُرَّاء. وكان فيه شباب ورد.. وكانت الصحف تكسب مادياً الكثير.. ولكن الأكثر من ذلك. تكسب احترام الجميع.. كانت الصحافة توجه الرأي العام. لذا كان يخشاها الملوك والرؤساء والوزراء. وكل صاحب رأس مال.. و.. و.. و.. * * * بعد فنجان قهوة الصباح وجدت نصف عقلي الآخر يقول لي: فوق بقي.. اصحي بقي. كفاية أحلام.. اخرج من سرداب 67 سنة صحافة.. و87 سنة عمراً.. وأمجاد قديمة من صاحب أكبر جريدة إلي أجير تأخذ مرتباً في صحيفة حكومية. وإذا لم تكن حكومية ستجلس في بيتكم.. انسي حكاية أضخم انقلاب في صحافة مصر كلها من ربع عمود رياضة في ذيل صفحة داخلية إلي أهم ثلاث صفحات رياضة في كل الصحف.. انسي حكاية المسلسلات بعد نكسة 1967 ووقف الرياضة لتعيد القراء إلي الصحافة.. انسي كل شيء.. واحترم نفسك.. اقعد في بيتك كفاية عليك كده!!.. الدنيا تغيرت تماماً الآن.. الأحفاد والأبناء يتحكمون فيك!! * * * بعد فنجان القهوة الثاني.. بدأت أفكر فعلاً في أن "أحترم نفسي" مادام الأبناء والأحفاد لا يحترمون أحداً!!.. كل ما أخشاه أن أصاب بنفس المرض الذي أصاب محمد التابعي حينما كتب يوماً: أن قلمه وقع من يده.. مَن يجده يعطيه لمصطفي أمين.. إعلاناً منه أنه اعتزل الصحافة وباع مجلة "آخر ساعة" بأسلوبه اللعوب الشيق!! ولكن ما أن وصل التابعي إلي منزله في نفس اليوم حتي شعر بالندم والمرض.. المرض فعلاً.. نيكوتين الصحافة تحرك في دمه. فالتحق بروز اليوسف كاتباً لا أكثر.. ومثال الأستاذ هيكل قريب.. هذا ما أخشاه.. وهذا سبب ترددي.. ولو مؤقتاً!!