لا خلاف علي أن مهمة الصحافة والإعلام كما تعلمنا في الجامعة هي نشر الخبر الصادق والتحليل المعمق والتحقيق الموضوعي المجرد من الهوي والميول الشخصية.. والرأي النزيه حق لصاحبه لا سلطان عليه إلا ضميره وصالح المجتمع. ولا رقابه عليه إلا القانون.. تعلمنا أيضًا أن الإعلام رقيب. وهو عين الشعب علي الحكومة والبرلمان. وهو إحدي أدوات الشفافية في الدولة المدنية الحديثة. يتعقب الفساد والمفسدين. يتناول قضايا الناس والأمة وأوجاع المواطن وهمومه وطموحاته بأمانة وحياد وموضوعية بهدف التنبيه إلي مواطن القصور وسوء الأداء. وبناء وعي حضاري بحركة الحياة والتاريخ وأولويات الأمة في خضم الصراعات والمصالح. يشبع حاجة الجمهور إلي المعرفة الجادة الرصينة بتقديم ما يحتاجه هذا الجمهور ليكتمل رشده وتهتدي بصيرته إلي طرائق الحق وليس تقديم ما يحبه هذا الجمهور.. وفارق هائل بين ما يحبه الناس وما يحتاجون إليه ..!! والسؤال: هل حقق إعلام اليوم وصحافته هذه المعادلة. هل استقي معلوماته من مصادرها..هل تبني أولويات المجتمع وقضاياه الحقيقية في التنمية وسباق التقدم أم استسلم لغواية مواقع الاشتباك الاجتماعي "التواصل سابقًا" كفيس بوك وتويتر والمواقع الإلكترونية.. وهل يصح ذلك مهنيًا لاسيما في مثل ظروفنا الحالية من حرب ضد الإرهاب والشائعات وصعوبات الاقتصاد والمعيشة.. هل يدري القائمون علي إعلام اليوم وصحافته أننا نهدي أعداءنا فرصًا كثيرة كلما نشرت أخبار كاذبة تحدث بلبلة وذعرًا بين المواطنين بلا داعي وتجعل العاقبة وخيمة.. فإذا نشر الإعلام مثلاً خبرًا عن غلاء سلعة معينة تكالب الناس علي شرائها وعمد التجار الجشعون إلي إخفائها تعطيشًا للسوق وطمعًا في جني مزيد من الأرباح ببيعها بأسعار أعلي تسبب مثل ذلك فعًلا في غلاء تلك السلعة وكان أحد عوامل تعكير السلم الاجتماعي والإضرار الشديد بالفقراء والمعدمين.. أليس عدم التثبت من الأخبار أو المعلومات قبل نشرها يجعل منها وقودًا للإثارة وبث الهلع في ربوع المجتمع.. هل كان موفقًا ذلك التصريح الذي قالته د. مني مينا وكيلة نقابة الأطباء عن إعادة استخدام السرنجات في بعض المستشفيات أم جانبها الصواب والمنطق.. هل تكفي رسالة جاءتها من طبيب ما لتبني موقفاً كهذا أنتج بلبلة وهلعًا بين الناس.. أما كان الأولي بها أن تستوثق من الحقيقة بطرق عديدة قبل الخروج علي الرأي العام بهذا التعميم الصادم العاري من الحقيقة والذي دعا جهة حكومية عريقة كجامعة القاهرة للسير في إجراءات مقاضاتها لما بدر منها من مخالفة صريحة لكل القواعد والضوابط المعمول بها في مستشفيات الجامعة. وكما رفضت الجامعة تصرف مينا رفضته أيضًا وزارة الصحة ذاتها فهو أمر لا يتصور حدوثه أصلاً.. لكن المدهش حقًا هو موقف نقابة الأطباء في مواجهة وكيلتها حيث لم تتخذ الأولي ما يدل علي أنها لا يرضيها ما فعلته الثانية ..!! أيضًا ما نشره الإعلام عن حذف الأشخاص الذين يزيد مرتبهم علي 1500 جنيه ومعاشهم 1200 جنيه من بطاقات التموين ثم خرج مجلس الوزراء لينفي ذلك تمامًا.. وقس علي ذلك عشرات الأمثلة من نشر الشائعات التي إن دلت فإنما تدل علي سقطات وعثرات الإعلام في زماننا والتي لا تخدم إلا أعداءنا وخصوم وطننا.. وتحدث شروخًا في أوصال المجتمع وتربك الدولة وتنشر الإحباط والاحتقان.. وهنا يصبح السؤال كيف يطمئن ضمير المجتمع لصدق مراقبة الإعلام والصحافة لأداء أجهزة الدولة بينما هذا الإعلام نفسه في حاجة لمن يراقب أداءه ويقيله من عثراته..؟! هل يصح أن يتحول إعلام اليوم وصحافته إلي مادة مسلية يتسابق الجمهور لمعرفة أخبارهما وما يدور في كواليسهما عبر مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت ..كيف لصانع الرأي العام أن يتحول من فاعل مؤثر إلي مفعول به» متخليًا عن رسالته في نقل ما يدور بصدق وتجرد في أروقة المجتمع وكواليس الحكومة ورجال المال والأعمال والفن والرياضة والعلم وغيرهم.. أن تتحول المهنة إلي أزمة واشتباك بين جهة حكومية ووسيلة إعلامية.. وبدلاً من أن تكون نقابة الصحفيين حاضرة بقوة في محاسبة المخطئين من أبنائها وجدناها مشدودة إلي معارك جانبية لا تخدم المهنة ولا أصحابها.. ونرجو أن تكون معركة النقابة القادمة في مسألة حبس النقيب واثنين آخرين من مجلس النقابة في قضية إيواء مطلوبين. قانونية صرفة مثلما قال نقيب الصحفيين بالفعل حتي تتمكن من إلغاء الحكم بالطريق القانوني. وحتي يمتنع المزايدون عن توظيف تلك القضية سياسًيا بالدعوة إلي الاجتماع أو التظاهر.. فالمواجهة بين الدولة والنقابة ليست في صالح الاثنتين ولا حتي في صالح المهنة وأهلها. وهو ما ينبغي لمجلس النقابة أن يتفهمه وأن يحشد الطاقات لأجل كسب المعركة القانونية. ورأيي أنه ما كنا لنصل لهذه الدرجة من التأزيم لو جري حوار مثمر بين جميع الأطراف فليس هناك عاقل يتمني حبس أي زميل صحفي في قضية رأي أو غيرها .فضًلا عن أن يكون نقيبًا للصحفيين أو وكيلاً للنقابة.. إعلاء لغة الفعل والمنطق ضمانة للخروج من تلك الكبوة. أما إعلامنا وصحافتنا فنرجو لهما أن يستردا عافيتهما ومكانتهما في المجتمع. وأن يتبوآ صدارته بجهد مخلص حقيقي في نشر الوعي والاستنارة والنهوض بالمهنة أو مساندة الأمة في محنتها بإدراك عميق وفهم واسع لحقيقة الدور والرسالة. بعيدًا عن التخبط والتشويه والإرباك.. مساندة الدولة ليست معناها أبدًا التهليل للحكومة والانحياز لها عمَّال علي بطَّال لكن بالنقد البناء الهادف وإعلاء المصلحة العامة وصالح المجتمع. الصحافة المستقلة تسمية خاطئة للصحف الخاصة» فشتان الفارق استقلال الموقف والإرادة واستقلال ملكية الصحف الخاصة عن الحكومة .فلا يوجد في العالم كله صحافة مستقلة أو محايدة تمامًا. وأبرز الأمثلة علي ذلك ما حدث في انتخابات الرئاسة بأمريكا أخيرًا وكيف حاولت الصحف هناك شيطنة ترامب لصالح كلينتون. وهذا النوع من الصحافة يموله رجال أعمال وجهات لهم مصالح يلزم للدفاع عنها بث رؤي وأفكار تحقق تلك الأهداف بصرف النظر عن مصالح المجتمع والناس. الأمر الذي يجعل استقلالها المهني لا أقول محل شك علي إطلاقه بل محل نظر ومراجعة علي أحسن تقدير. فصاحب الجريدة أو الفضائية الخاصة هو رجل أعمال وليس رجل إعلام أو سياسة بالأساس» ومن ثم فإن الصحيفة أو الفضائية بالنسبة له هي محض سبوبة أو مشروع هدفه الربح أو الدفاع عن مصالحه دون النظر لما يفترض أن تقوم به تلك الصحيفة أو الفضائية من وظيفة اجتماعية كمشروع ثقافي تنويري هدفه الارتقاء بوعي الناس وسلوكهم.. وهو ما يفسر لنا ما تعانيه بعض الصحف من أوضاع اقتصادية متردية وأزمات طاحنة حرمت العاملين فيها من أبسط حقوقهم المادية بصورة فاقت نظيرتها في المؤسسات الصحفية القومية وإعلام الدولة اللذين أثبتت الأيام شدة حاجتنا إليهما كرمانة ميزان وصمام أمان للرأي العام. ومن ثم فإن الحفاظ عليهما بات فريضة لا يقدح في وجوبها تحامل البعض عليهما باتهامهما بالتحيز للحكومة والدفاع عنها بالحق والباطل. لسنا هنا في معرض الدفاع عن الإعلام القومي المملوك للدولة» فكثيرًا ما نوهنا ونوه غيرنا لما يعانيه هذا الإعلام من أوجاع تزداد مع الأيام تعقيدًا. وسلبيات آن لها أن تتوقف لكنه مع ذلك لم يكن أبدًا معول هدم في بنيان الاستقرار أو الحرية كما يفعل للأسف بعض الإعلام الخاص صحفًا وفضائيات من إثارة وتحريض وبث لخطاب الكراهية والإحباط والسوداوية والتطاول بصورة تخلو من اللياقة وأخلاقيات المهنة. لسنا هنا في معرض التفاضل بين الإعلام الخاص وإعلام الدولة فلكل إيجابياته وسلبياته. والكل مسئول عما وصل إليه حال الإعلام من تردي وتراجع في التأثير والمصداقية.. وكل الإعلام مسئول أيضًا عما وصلت إليه أحوال أمتنا وما صرنا فيه من رداءة في الخطاب واستقطاب وتشويش وانقسامات كرسها الإعلام بعلله وأوجاعه وآفاته. وعلي رأسها غياب الموضوعية وتراجع المهنية وشيوع السطحية والجمود والتحيز والازدواجية وعدم تحري الدقة وصدقية المعلومات. والانزلاق لمهاوي البذاءة ومجافاة الجدة في التحليل وانقطاع التواصل بين الأجيال وتداول الخبرات وعشوائية التوظيف في وسائل الإعلام كافة ومن ثم صعود غير ذوي الكفاءة» الأمر الذي قد يفسر لنا لماذا غابت الموهبة وانعدم التجديد. ولم تظهر عناصر إعلامية فذة واعدة علي غرار الرواد والجهابذة الذين شقوا مجري الصحافة والإعلام ليجري في النهر ماء الإبداع والروعة ليسقي غرس الريادة والتفوق.. وشتان الفارق بين أجيال صنعت أمجاد صاحبة الجلالة. وأجيال لم تنجح في الحفاظ علي مقومات بقائها كما هي.. ولعل التعثر والحيرة وصعوبة اختيار قيادات صحفية وإعلامية جديدة كلما دعا للتغيير داعي يؤكد صحة ما ذهبنا إليه من ندرة الكفاءات وقلة الكوادر.. الأمر الذي يدق جرس إنذار ينبغي أن يتنبه له من يهمه أمر الإعلام لاستنفار الجهود ووضع الحلول قبل أن تندثر هذه المهنة. حلول جذرية لمعالجة اختلالات المنظومة الإعلامية» خصوصًا الصحف القومية حصن هذا الوطن وضميره النابض وبوصلة الرأي العام إلي الأمان بعيدًا عن أجندات رأسمال المال.. لكن كيف يمكن استرجاع أمجاد تليفزيون الدولة والصحف القومية التي جاوز توزيع إحداها يومًا ما جملة ما توزعه جميع صحف اليوم قومية وخاصة.. كيف تتحقق المعادلة الصعبة باستقلال الإدارة وتحقيق الربحية المناسبة ومساندة الدولة.. كيف يتحقق ذلك ولا تزال وسائل الإعلام القومية مكبلة بالديون والأزمات المتراكمة ووصاية الحكومات المتعاقبة عليها.. متي تري مجالس الإعلام والصحافة النور..متي تتحرك الحكومة والبرلمان لإصدار قانون الإعلام الموحد.. متي تتشكل الهيئة الوطنية للإعلام والهيئة الوطنية للصحافة والمجلس الأعلي للإعلام والصحافة بعيدًا عن تأثيرات أصحاب المصالح والتجاذبات السياسية والشللية التي عانينا منها في تشكيل الأعلي للصحافة.. هل نري في تشكيلها شخصيات عامة ومتخصصين من ذوي الجدارة والنزاهة والاستقلال مخلصين لوجه الله والوطن والمهنة.. متي تمارس تلك المجالس دورها بشفافية واستقلال اتساقًا مع روح الدستور ومبادئه.. ارتقاء بمهنة باتت في خطر . لسنا في حاجة للقول إن مواجع الإعلام وعلله لا تخفي. وتحتاج لجهود مضاعفة للعلاج وبث روح جديدة في أوصاله» روح تعيد إليه المصداقية وقوة التأثير. انطلاقًا من تصحيح أشكال الملكية وتحرير الصحف والفضائيات من قيودها. وإخضاعها جميعًا لجهاز وطني مستقل ومحايد.. ولتكن البداية بإصلاح هياكل الصحف القومية وتسوية ديونها وإصلاح أحوالها وإطلاقها علي طريق المنافسة» ضمانًا للتوازن في صناعة الرأي العام. وحفاظًا علي البلاد من رياح إعلام رأس المال والمصالح الخاصة لأصحابه.