"كلينت إيستوود" هو الاسم السينمائي الذي حين يُذكر لا يأتي في الذهن إلا صورة البطل بالمعني الحرفي للكلمة. وهي منزلة وصل إليها عبر أدواره التاريخية في أفلام رعاة البقر التي عادة ما تقدم الأبطال بأكثر الصور سحرا. وبهالة تفوق غيرهم من أبطال نوعيات السينما الأخري. ولعل صفة البطولة تلك التي طالما ارتبطت بإيستوود أكثر من غيره من النجوم كانت السبب الذي دفعه في أفلامه الأخيرة "كمخرج" للبحث عن معني البطولة والأبطال داخل مواضيع تلك الأفلام. وكأنه يتشبث بتلك الصفة بعد أن أصبح في أرذل العمر وغابت عنه السمات الشكلية والبدنية التي صنعت منه يوماً أسطورة بطل السينما الأوحد. فلم يعد أمامه سوي ربط اسمه بأبطال آخرين ولكن من واقع الحياة الأمريكية. سواء بطل حرب كما في فيلمه المثير للجدل "القناص الأمريكي". أو قائد طائرة ينقذ عشرات المواطنين الأمريكيين من الموت كما في فيلمه الأحدث "سولي" الذي يُعرض بدور العرض المصرية الآن. الفيلم المبني علي أحداث حقيقية في يناير من عام 2009. حين واجه الطيار المدني "سولي" عطل بطائرته بعد إقلاعها بثواني في رحلة الركاب المتجهة من نيويورك إلي ولاية كارولينا الشمالية. حيث اصطدم المحركان بسرب من الطيور أدي لتحطمهما. ما اضطر سولي للهبوط فوق نهر "هادسون" في مغامرة غير محسوبة العواقب وبها تهديد لحياة الركاب. ولكنها تنجح علي أي حال كما يخبرنا إعلان الفيلم وملخص القصة الدعائي والدقائق الأولي من الفيلم نفسه. التحدي السينمائي الذي يواجهه إيستوود هنا هو كيفية تحويل حدث لم يتخطي زمنه الفعلي 208 ثوان إلي فيلم روائي طويل مدته ساعة ونصف. دون أن يلجأ للأساليب السردية القديمة. وأبسطها تقديم تاريخ للشخصيات أو قصة فرعية مكتملة تجعلنا نتعلق بهم أثناء مواجهتهم للكارثة كما يحدث في أشهر أفلام تلك النوعية "تايتانيك". وعلي العكس آثر إيستوود الطريق الأصعب وهو الاكتفاء بالحدث وإعادته مراراً وتكراراً بكافة زوايا الرؤي الفكرية والعاطفية والبصرية. ثم التخديم عليه بشحنة من الإنسانيات وليدة الموقف واللحظة نابعة من بشر لا نعرف عنهم شيئا ولكن ملامح حياتهم تشبهنا. بالطبع لم يكن الخيار الإنساني لينجح وحده في حمل الدراما دون عناصر مساعدة. ولكن الرائع أن تلك العناصر أيضاً جاءت مختلفة عن السائد. فلقد وضع إيستوود بطله سولي. الذي أدي دوره بسلاسة النجم المحبوب توم هانكس. في موضع تساؤل وشكّ دائم من قبل المتفرج. لدرجة أننا نشعر في لحظات أن سولي نفسه يشك في ذاته وغير متأكد من تبرير ما فعله أمام مسئولي شركة الطيران التي. وبرغم انقاذ أرواح الركّاب. تتهم سولي بإتلاف الطائرة بسبب اتخاذه القرار الخاطيء وهو عدم العودة للهبوط في المطار بدلاً من النهر. هنا اشتدت حمية الدراما لأننا أصبحنا أمام قوي مهددة للبطل بجانب تحدي الحادث نفسه الذي لم يكن كافيا زمنيا لإشعال الدراما. ناهيك أن نتيجته معروفة سلفاً. وقد استطاع إيستوود وكاتب السيناريو "تود كومارنيكي" بلمسات بسيطة جعلنا مهتمين بمتابعة الفيلم. ليس فقط لمعرفة إن كان سولي مذنباً أو بطلاً. بل تأملاً في معني البطولة نفسه. هذا التأمل يأخذ منحي أكثر عمقاً بخلق مقارنة ختامية بين الإنسان والروبوت في مشهد حواري بديع بين "سولي" وأعضاء لجنة التحقيق. نخلص منه بأفكار فلسفية مثيرة ولكنها في غاية البساطة وتجعلنا أكثر تصالحاً وحباً لحقيقتنا البشرية بقوتها وعجزها وكافة تفاصيلها وتناقضاتها. قبل أن ينتهي الفيلم بنكتة في غاية الظرف ترتج لها قاعة العرض بالضحك. وكأن إيستوود يرفض أن يغادر الجمهور مقاعده بحالة شجن خالصة دون كسرها ببعض الحميمية والفكاهة. والأخيرة من الصفات الحصرية علي الإنسان وتستحيل علي الروبوت. لتكلل النكتة بدورها رسالة الفيلم الإنسانية بشكل ذكي وغير مباشر. سولي تجربة موفقة لدرجة كبيرة من إيستوود. وتثبت أنه وإن غادر منصة البطولة أمام الكاميرات فهو يظل بطلاً خلفها.