ياه .. سنة ياعبدالرحمن..!!.. غبت عنا.. ولكن لم يغب عنا شعرك.. ولم يغب عنا صوتك.. مازالت صحبتك حية.. منذ أن جئت من قنا.. ومعك الشاعر الكبير أمل دنقل.. وكاتب القصة.. يحيي الطاهر عبدالله.. كانت تجمعنا مقهي "ايزائيفتش" بميدان التحرير أو مقهي"ريش" بشارع طلعت حرب.. كان المقهي يجمعنا سيد حجاب.. وجمال الغيطاني.. والفنانين عز الدين نجيب.. ومحمود بقشيش.. ودسوقي فهمي.. والأدباء خيري شلبي.. وأحمد الشيخ.. والشاعر سمير عبدالباقي.. والدكتور عزازي علي عزازي وبلا مبالغة كل طليعة جيل الستينيات.. برعاية عم جمعة.. "جرسون" ايزائيفتش. منذ أن التقينا في أوائل الستينيات.. لم نفترق جميعا حتي في أبوظبي.. ودبي.. والشارقة.. ورأس الخيمة.. وكذلك السودان. كان الابنودي صادقا أبدا في مواقفه.. سواء السياسية أو الفكرية.. وعلمته هذا والدته فاطمة قنديل.. وجدته ست أبوها.. كأكبر مدرستين لهذا الشاعر العظيم.. فقد كان يردد دائما أنهما مدارسه الاولي التي تعلم فيها الشعر.. والصدق.. والالتزام.. والمدرسة الثانية كانت مدينة القاهرة التي تعبت في التواؤم معها.. وأما تجربة السجن عام 1966 والتي استمرت ستة أشهر وقضينا في الزنزانة رقم ..81 وقد فرحت جدا بتجربة السجن الذي تعلمت منها الكثير.. وخرجت من السجن وسافرت لتسجيل الهلالية.. فهي سيرة العرب الحقيقية.. كما تعلمت من تجربة حرب الاستنزاف التي قضيتها في السويس.. وابدعت قصائد يا بيوت السويس التي غناها المهندس الفنان محمد حمام.. وكتبت 30 غنوة سميتها مشروع ال30 غنوة وهي أغان كتبتها ولحنها بليغ حمدي.. وكمال الطويل.. ومحمد الموجي.. وغناها الفنان عبدالحليم حافظ ولم نتقاض عنها أجرا.. نحن جميعا. - الأبنودي يري ان الشعراء غابة شجر مثمر.. لكل منها ثمرها الخاص.. فبيرم التونسي.. وفؤاد حداد.. وصلاح جاهين.. وسيد حجاب.. وأنا.. لكل منا.. إنتاجه الخاص ومدرسته المتميزة. كانت الكلمة الشعرية عند عبدالرحمن الابنودي سلاحا من أسلحة الحرية.. توازي في تجاربها الابداعية تخيلا تجريبيا لاعادة تشكيل الشعر واستزراع براعم واقعية جديدة لتمرد طليعة ضاربة الجذور في الطبقات الشعبية.. ولا ينفد صبرها من طول انتظار.. وقالو لك فين علي بال ما يطيب في البندر قمر الشتوية في بلدنا امام العين حينما كان الباطل كاسر عين الحق في النصف الأول من الخمسينات وذلك نجده في ديوان "الأرض والعيال" أول دواوين الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي. كان الابنودي لكل شعراء العامية كسنبلة القمح .. كل حباتها تحتضن بعضها البعض في ود عميق.. لم يعرف الابنودي الكراهية أو تناقش مع أحد للحصول علي هبة أو جائزة وكان اصرار كل الشعراء نوعاً من الحب الذي غمسنا فيه لقمتنا واشعارنا علي طريق الامل الذي مشينا فيه مع الزعيم جمال عبدالناصر وكان انتماء الابنودي قويا.. فكتب "علشانك / رميت خدي علي دراعك/أبيع علشانك نص أبويا وأمي". ولن نستطيع متابعة وتتبع ابداعات الابنودي شديدة الاتساع والخصب.. لقد رفع مستوي الأغنية والشعر العام أخضعت قصائده شديدة التنوع الي التعمق في أربعة أجزاء من ملحمة "السيرة الهلالية". واستمر الابنودي حتي رحيله عن دنيانا يبدع انجازا متميزا.. ومتواصلاً ومتجدداً.. وكانت قدرته يتميز بأمرين يلازمان شعره. الأمر الأول : احتفاؤه واحتفاله بالانسان البسيط.. المواطن المسحوق العامل أو الفلاح الساعي وراء رزقه معا.. ميراثا ممتدا متطاولا لا انسانيا.. مع القمع والفقر والمرض والغربة.. ومع ذلك لايخلو من نور داخلي وارادة حياة ترفض الموت وتأبي الانكسار. الأمر الثاني : وضع هذا الانسان البسيط في بيئته الخاصة.. في أقصي الصعيد حيث يتبادل الانسان والحجر صفات الصلابة.. وتحرق الشمس الوجوه وتصهر النفوس.. كما تصهر النار المعادن.. لتخرج أصلب وأشد.. وبقدر امتزاج الموضوع بالانسان البسيط في بيئته وحرص الشاعر علي تأكيد هذا الامتزاج. كانت أشعاره عقدا من الايمان بتتويج الحلم الذي كنا نرجو الوصول به الي الشاطئ آمن. لكن للأسف اغتال الفساد حلمنا بالغرق كان حلما صوره الأبنودي.. ولما هل القمر الاسود للنكسة.. كان الابنودي قد تنبأ بها.. وقبل جرح الالم.. كان قد كتب موال النهار بطعم العلقم والحزن.. المأساوي. أبدا.. بلدنا ليل نهار بتحب موال النهار لما بيعدي في الدروب ويغني قدام كل دار المدهش كلما دخلت أحد المعابد الفرعونية وتأملت المرسوم علي جدرانها لتأكدت من أن الأبنودي أحد الفراعنة علي جدران المعابد.. بل تجد تطابقا مذهلا بالملامح المصرية علي الجدران.. تجد تطابقا مذهلا بملامح مصرية.. انحدرت بذرته من أصل الفلاح الفصيح علي جدران المعابد. هو .. هو .. وتخرج لتلقي الابنودي علي يزائيفتش درويش.. لتجد هو هو من تركتهم علي جدران المعابد نفس الانسان.. نفس الشكل.. نفس الملامح.. في تطابق مذهل القوام.. ونظرة العين والاقسام والجدية.. والاصرار علي وجهه.. وحركاته. كان الابنودي من اقوي المؤثرين في البشر في أبناء مصر والعالم العربي حيث كان الناس يتجمعون حول الاذاعة يستمعون الي جوابات الابنودي ورد الجوابات. وقد كشف عن قدرات هائلة وعن موهبة فذة ولاشك.. ان الفروق كانت كبيرة بين ما يبدعه وبين ابداعات بقية الشعراء فنحن نشعر أننا امام الطبيعة الحية النابضة.. لابد ان تلهينا سخونة شمسها تفتتنا بروائها.. وطزاجة هوائها النقي. تبحث فينا النشوة بألوانها الساحرة.. ولهذا لانملك الا ان نقول ان اشعار الابنودي قد خلعت حركة.. وجذبت اليه جماهير غفيرة.. عشقت الشعر اكراما لخاطر الابنودي.. ما من مكان في جميع انحاء مصر او في مدن وقري السودان.. وفي كل أماكن الخليج.. الا وتجد عددا لا بأس به من دراويش الأبنودي.. يكتبون الشعر مثله باللهجة الصعيدية.. لهجة الابنودي الخشنة.. حتي من أبناء الوجه البحري ويقلدونه في الالقاء.. حتي أصبح مدرسة شعرية سواء في الكتابة أو في الأداء أما الذين تذوقوا الشعر لأول مرة.. في حياتهم.. فعددهم يفوق الحصر. لهذا نقول بثقة ان الابنودي خارج المنافسة بين جميع ابناء جيله سواء من كتبوا بالعامية او حتي الذين كتبوا بالفصحي. فهو صاحب مدرسة.. ولم يكن شاعرا فقط.. بل كان انسانا كبير القلب.. لاينسي اصدقاؤه ومن أحبوه.. فقد دخلت علي أمي رحمها الله رحمة واسعة فوجدتها سعيدة جدا فسألت عن السبب فقالت "الابنودي كان بيكلمني الوقت والحمد لله صحته كويسه".. كما أخذ جثمان أمل دنقل وجثمان يحيي الطاهر لدفنهم في قراهم بقنا. وبعبقرية الأبنودي حول لغة التخاطب الي شعر بخلاف جوابات حراجي القط.. وبعد التحية والسلام لم تكن عبقريته في الشعر فقط.. بل كتب الرواية الشعرية "أحمد اسماعيل" وكان هذا الرجل فلاح صديقه من قرية منية مجاهد مركز دكرنس.. وكان يوده دائما. هذا خلاف دواوينه الكثيرة التي هي من العلامات المهمة في تطور الشعر المصري.. مثل "الأرض والعيال" "الزحمة" و"الفصول" و"صمت الجرس" و"ناجي العلي" ناهيك عن عبقريته في فن البورتريه المتمثلة في "وجوه علي الشط". أما دور الابنودي في تطوير الاغنية المصرية فحدث ولاحرج.. وهو صاحب مدرسة غنائية متميزة حتي امتزج البشر بالأرض بالحلم بالماضي والحاضر والمستقبل.. ولا ننسي "آه ياليل ياقمر" و"تحت الشجر يا وهيبة" و"شبابيك علي النيل عنيلي". و"احضان الحبايب" ومئات من الاغنيات التي غناها كبار المطربين امثال عبدالحليم حافظ.. ومحمد رشدي.. فايزة أحمد.. نجاة الصغيرة.. ووردة.. وماجدة الرومي ومحمد منير.. هذا بخلاف المقدمات الغنائية للمسلسلات صاحبة الشعبية الطاغية مثل مسلسل النديم.. وافلام سينمائية مثل "الطوق والاسورة" و"البرئ" وشئ من الخوف. ولن أنسي احد كبار المطربات تلح عليه بقوة ليقدم لها اغنية كان قد اعطاها لنجاة الصغيرة منذ سنوات ولكنه رفض ايضا بقوة قائلا صاحبة التصرف الوحيدة هي الفنانة نجاة والسؤال عن سر تلقيبه ب"الخال" فالخال في مصر "الخال والد" وأيضا صاحب رحمة وحنان.. والخال بحكم موقعه لايطمح في ميراث بل يحافظ علي ممتلكات أبناء أخته. الخلاصة ان الحديث عن الأبنودي الصديق الانسان يضع الانسان في مأزق شديد.. فمن أين يبدأ.. والي أين ينتهي.. وماذا يذكر.. وما يجب ألا يذكره.. هذا انسان عظيم الثراء.. رحمة الله عليه فيظل ضمير البسطاء مهما مر الزمن.. وتوالت السنون.