تونس. مصر. فلسطين. كانت الدول الثلاث حاضرة بقوة منذ اليوم الأول في أعقاب الافتتاح بالفيلم الكوميدي الساخر "يحيا قيصر" بمهرجان برلين السينمائي في دورته السادسة والستين الممتدة من 11- 21 فبراير.. كان يوما عربيا غاب طويلا عن "البريناله" خصوصا فيما يتعلق بالمسابقة الرسمية التي شهدت دورة هذا العام مشاركة الفيلم التونسي "نحبك يا هادي" للمخرج محمد بن عطية وذلك بعد غياب السينما العربية عن المسابقة الدولية لمدة عشرين عاما حيث كان آخر فيلم "صيف حلق الوادي" للمخرج فريد بوغدير 1996. اللافت أن الأعمال الثلاثة مميزة في مستواها الفني رغم أي ملاحظات نقدية قد تؤخذ عليها. فإلي جانب تجربة تامر السعيد في أول أعماله الروائية الطويلة "آخر أيام المدينة" الذي تحقق بعد عشر سنوات من العمل- بعد فيلم قصير كان واعداً "يوم الأثنين" وتجارب وثائقية- والذي تميز بخصوصية لافتة ومزيج بين الوثائقي والروائي من خلال تصوير نجح في أن ينقل عبق وجمال وضجيج وكارثية المدينة التي تقتل أرواح البشر. ورغم أن الأسلوب السردي ليس جديداً فالأحداث نراها وكأنها فيلم داخل فيلم. ورغم أن هذا الأسلوب سبقه إليه كثيرون ومنهم شاهين في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي بفيلمه الرائع القاهرة منورة بأهلها. لكن تجربة السعيد مختلفة. وتحمل سمات وقلق الجيل الحالي.. أما تجربة جومانة مناع "مادة سحرية تخترقني" فتنتمي للوثائقي الخالص وتمت بإنتاج مشترك بين بريطانيا والإمارات. وتتناول فكرة التنوع الموسيقي في ظل تنوع الأجناس والأعراق التي تعيش داخل مدينة القدس. والفيلم يميزه إيقاعه المتوازن. وتنوع شخصياته. وحسه الفكاهي. وثراءه بالأغاني العربية. والتجربتان السابقتان عرضتا في قسم المنتدي. أما التونسي "نحبك هادي" بطولة مجد مستورة وريم بن مسعود وصباح بوزيد. فيتنافس مع ثمانية عشر شريطاً لنيل جوائز الدب الذهبية والفضية. "نحبك هادي" هو أول عمل روائي طويل لمحمد بن عطية- الذي يبلغ من العمري أربعين عاما. وإنتاج درة بوشوشة التي أنتجت من قبل أفلاما مهمة للسينما التونسية.. والأخير عمل سينمائي بسيط جداً- من تأليف مخرجه- وعنوانه يحتمل تورية ما. فرغم أن هادي هنا اسم البطل الرئيسي. لكن العنوان أيضاً يحتمل تفسيراً آخر» أننا نحبك هادئاً مستسلماً لا ثير مشاكل ولا تعترض علي ما نتخذه من قرارات تخص حياتك. ربما تبدو القصة تقليدية. لكن بناءها يتسم بالتلقائية والحساسية والصدق. وأنه لو نزعنا عنها إطارها التونسي يمكن لها أن تحدث في أي مكان في وطننا العربي. وفي عدد من بلدن العالم أيضاً. لأنها قصة إنسانية في المقام الأول.. إنها حكاية الابن الذي تتخذ له أمه جميع القرارات في حياته. تقرر له أين يعمل. بمن يتزوج. متي يخرج. وتمنحه النقود وقتما تريد. وهو منساق لها تماماً رغم أن هناك قليلاً من الإيحاءات اللحظية نستشعرها عبر الوجه أحياناً تكشف ضيقه المكبوت. خصوصاً عندما تتحدث بفخر شديد أمام الآخرين عن أخيه الأكبر المتزوج من فرنسية واصفة إياه بأنه نسخة منها وكأن هادي أقل قيمة منه. قامت الثورة في تونس وأطاحت بنظام زين العابدين بن علي. انتفض البلد وعلي حد قول بطل الفيلم: ¢بعد الثورة الناس بدأت تتعامل مع بعضها بشكل مختلف. كانت تبتسم في وجه بعض. وتحب بعض. كان كل واحد يحب الآخر.¢ لكن التساؤل الذي يطرح نفسه: وماذا بعد؟ هل نجحت الثورة في خلخلة العلاقات الأبوية والسلطة البطريركية والتي تمثلها أيضاً النساء بممارسة أشد وأقسي مما يفعل الرجل أحيانا؟ أيهما أكثر فعالية وتأثيراً في المجتمع أن نبدأ بالثورة قبل الحب. أم أن الحب هو مفجر الثورة والتغيير الحقيقي الجوهري؟ تساؤل يجيب عليه الفيلم بذكاء. فعندما يتم ارسال هادي إلي منتجع المهدية الساحلي قبل أيام قليلة من زواجه ليعقد صفقات بيع للسيارات إذ يعمل مندوب مبيعات. لكن هناك يلتقي بريم التي تعمل بالسياحة وهي بذات الوقت راقصة وشخصية مرحة وجميلة. منذ تلك اللحظة وتدريجيا تنقلب الأمور رأسا علي عقب وتطرأ التحولات علي شخصية هادي الانطوائي الخجول المستسلم. لنري ابتسامته المشرقة وانطلاقه الذي يصل إلي ذروته بثورته علي الأم والأخ مهما كانت النتائج والعواقب. لكن الجميل بالفيلم أيضاً أن هذا الحب القوي المصحوب بعلاقة حميمة لا يسرق من هادي عقله. بل يجعله يفكر في المستقبل ويخطط له حتي لو اضطره أن يتخذ قراراً يذبح القلب ويجعله يفترق عن الحبيبة التي التقاها لأيام معدودة غيرت حياته.