مازال التدخل العسكري الروسي في سوريا لدعم الرئيس بشار الأسد ومحاربة تنظيم "داعش" الإرهابي وتوابعه يثير قضايا وأسئلة متعددة. سواء علي المستوي العالمي أو الإقليمي. تستحق كل الاهتمام والمتابعة. ولقد دعوت. في مقال الأسبوع الماضي إلي النظر لهذا التدخل في إطار استراتيجي.. فالرئيس الروسي بوتين. ليس كما يتصور بعض القادة أو المحللين السياسيين. مجرد لاعب تكتيكي ماهر. بل هو زعيم يحمل في رأسه فكرة ورؤية استراتيجية بعيدة المدي. للعالم من ناحية. ولموقع "الأمة الروسية" فيه من ناحية أخري.. وكل خطوة يخطوها أو إجراء يقدم عليه يجد تفسيره الصحيح من هذا المنظور وحده. بوتين يري أن العالم يتسع لأكثر من قوة عظمي. وأن مكان الأمة الروسية فيه لا يجب أن يقل عن دور الشريك في قيادة هذا العالم وليس "التابع" لأي قوة فيه. وهي تملك من تاريخها. ومن مقومات قوتها الحالية. ومن طموحها المستقبلي ما يؤهلها لهذا الدور. وقد انتظر بوتين من الولاياتالمتحدة والغرب عموما الإقرار لروسيا بهذا الدور. لكن خطأ الغرب في التعامل معه ومع بلاده. وتصور أنه يمكن حصار روسيا أو احتواؤها والتعامل معها كشريك من الدرجة الثانية. هو ما ألجأ بوتين إلي الانتقال إلي مرحلة "المواجهات المباشرة" مع الغرب دفاعا عن فكره ورؤيته ومصالح بلاده وأمنها القومي. ولأن بوتين يدرك جيدا أنه يتعذر علي روسيا - منفردة - أن تواجه الغرب.. الولاياتالمتحدة وأوروبا.. وذراعه العسكرية المتمثلة في حلف الأطلنطي.. الحلف العسكري الوحيد في العالم الآن. فإن بوتين يسعي إلي أن يكون لروسيا أيضا ذراعها العسكرية. وأن ينسج بدقة. وخطوة خطوة. خيوط تجمع أو تحالف عسكري. من دول تشاركه رؤيته في رفض هيمنة قوة واحدة علي قيادة العالم.. ورفض الهيمنة الأمريكية بالذات ومعاييرها المزدوجة وما أكثر المتضررين منها بين شعوب العالم ودوله. وإذا استعرنا تعبير الرئيس السيسي الذي أطلقه عند افتتاح قناة السويس الجديدة. فإن التدخل العسكري الروسي في سوريا. يمكن اعتباره "خطوة من ألف خطوة" في هذا الاتجاه. لتصحيح الخلل في موازين القوي العالمية. والاتجاه إلي نظام عالمي يقوم علي قاعدة "التوازن الدولي". *** اليوم. أريد التوقف عند ثلاث نقاط أثارها هذا التدخل العسكري الروسي. من بين الكثير الذي أثاره ومازال يثيره من قضايا. * النقطة الأولي. هي البيان الذي أصدره الاتحاد الأوروبي يوم الاثنين الماضي حول هذا التدخل. ووصفه بتعبير محدد. وهو أنه "يغير قواعد اللعبة". وطالب روسيا بوقف هذا التدخل فورا. فالبيان الأوروبي لم يوضح ما هي "قواعد اللعبة" التي يقصدها. ومن الذي وضع هذه القواعد. وما هو التغيير الذي طرأ عليها.. أي ماذا كانت عليه. وماذا أصبحت.. وهل يقصد قواعد اللعبة العالمية.. أم قواعد اللعبة في سوريا. لكن التعبير صحيح.. فقط يجب استكماله.. لقد غير التدخل العسكري الروسي في سوريا قواعد لعبة يجب أن تتغير. لأنها وضعت من طرف واحد. ولتحقيق أهدافه فقط. وفي إطار تصور خاطئ من هذا الطرف بأنه يملك وحده صياغة قواعد اللعبة أو تغييرها. وعلي بقية دول العالم التي ترغب في المشاركة. أن تلعب بشروطه. لقد كان الدور الروسي فاعلا. وأساسيا. في التوصل إلي تسويات أو حلول لمشاكل جوهرية. بالطرق السلمية. ومن خلال التفاوض.. فالغرب وحده. بقيادة الولاياتالمتحدة. ومن ورائه حلف الأطلنطي لم يكن ليستطيع التوصل مع إيران إلي الاتفاق النووي الأخير بدون الدور الروسي.. وما كان له أن يستطيع إقناع الرئيس السوري بشار الأسد بالتخلص من أسلحته الكيماوية بدون الدور الروسي. لكن الغرب لم يقدر هذا الدور الروسي حق قدره.. ودفع الرئيس بوتين إلي التدخل العسكري في سوريا لنسف قواعد لعبة تقول إن القضاء علي داعش بواسطة تحالف دولي وإقليمي تقوده الولاياتالمتحدة بكل جبروتها العسكري يحتاج إلي عشر سنوات وأن القضاء علي بشار الأسد شرط القضاء علي داعش. ليصبح تنظيم داعش. في ظل قواعد هذه اللعبة. أقوي وأكثر تمددا وانتشارا في العالم العربي. بعد أن حصل علي اعتراف القوة العظمي الأولي في العالم وتحالفها الدولي. بأنه أشد بأسا من صدام حسين وجيشه مثلا الذي تم اجتياحه عام 2003 وهزيمته في بضعة أسابيع.. كما حصل التنظيم علي تصريح باستمرار وجوده لعشر سنوات قادمة. التدخل العسكري الروسي. أثبت - وبقوة عسكرية محدودة - أنه يمكن - في أيام - تحقيق ما لم يحققه التحالف الدولي الأمريكي في شهور. من إضعاف لقوة هذا التنظيم. وضرب مراكز قيادته ومخازن أسلحته وذخيرته وخطوط إمداده. وهو ما أثار ردود الفعل الأمريكية الأوروبية التي نراها. * النقطة الثانية في حديث اليوم. تتعلق بالاهتمام الكبير بموقف مصر بالذات من التدخل العسكري الروسي. وهو ما بدا واضحا هذا الأسبوع. سواء من جانب أمريكا. أو من جانب روسيا نفسها. في واشنطن. أثير هذا الموضوع خلال المؤتمرات الصحفية للمتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية الذي طلب منه التعليق علي ما صدر في القاهرة من تصريحات حول هذا التدخل سواء علي لسان الرئيس السيسي أو وزارة الخارجية المصرية. وكان رده أنه لا يستطيع تفسير هذه التصريحات.. ثم أعقب. إنه إذا كان المقصود منها تأييد تدخل عسكري روسي في سوريا لمحاربة الإرهاب وتنظيم داعش. فإنه يمكن تفهم ذلك. في موسكو. سئل الرئيس بوتين نفسه. خلال حوار تليفزيوني. إن كانت هناك دول "سنية" تساند التدخل الروسي. وإن كانت مصر بالذات من الدول التي تساند روسيا. فنفي في رده علي الجزء الأول من السؤال أن تكون هناك أي علاقة للتدخل الروسي بمسألة الشيعة والسنة.. أما عن الجزء الثاني فأكد أن مصر ليست وحدها التي تسانده. لأن خطر الإرهاب يهدد الجميع في المنطقة. هذا التركيز العالمي علي الموقف المصري. لا يؤكد فقط أهمية هذا الموقف في نظر القوي العظمي في العالم. بل يدعونا أيضا إلي أن يكون دورنا في الأزمة السورية أكثر ثقلا وفاعلية. باعتبار سوريا جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومي المصري. * تبقي النقطة الثالثة والأخيرة في حديث اليوم. وهي ليست من "توابع" التدخل العسكري الروسي. بل سابقة عليه. ويمكن القول إنها من بعض "دوافع" هذا التدخل. أقصد بذلك ما يسمي في سوريا ب "المعارضة المعتدلة". في المفهوم الأمريكي. المعارضة المعتدلة. هي تلك المجموعات من السوريين التي ترتبط بالولاياتالمتحدة. وتعمل علي تحقيق هدفها الأول في سوريا وهو الإطاحة بالرئيس بشار الأسد ونظامه وجماعته. وتقبل في سبيل ذلك الحصول علي تدريب وتسليح وتمويل أمريكي بالدرجة الأولي. وأوروبي من الدول المؤيدة لهذا التوجه الأمريكي.. وإقليمي من دول عربية في الخليج وغيره. والسؤال: كيف يمكن لمعارضة تحمل السلاح وترفعه في وجه النظام. أيا كان. وتتلقي تمويلها وتدريبها وتسليحها من الخارج أن تسمي.. معتدلة؟! وما هي. في ضوء هذا المفهوم. المعارضة غير المعتدلة؟! وإذا كانت المعارضة المسلحة معتدلة.. فبماذا نسمي مثلا الحزب الجمهوري الأمريكي الذي يجلس في مقاعد المعارضة في النظام السياسي الأمريكي الآن؟!.. أو حزب العمال البريطاني مثلا؟! إن معيار الاعتدال هنا "صنع في أمريكا" مع هذه المعارضة نفسها. وبالمواصفات التي تحقق أهداف أمريكا ومصالحها في المنطقة. وبالتالي فإنه من الخطأ والخطر الجسيم أن نتبني نحن في العالم العربي هذا المعيار. لأن "الدنيا دوارة" كما يقولون. وما نقره بالنسبة لغيرنا اليوم. قد نتعرض لمثله غدا. لا توجد دولة عربية. بما في ذلك دول الخليج كلها. ليس فيها معارضون للنظام الحاكم بها. سواء كان هؤلاء المعارضون أفرادا أم جماعات أم أحزابا.. وسواء كانت هذه المعارضة مستترة أم ظاهرة. وسواء كان هؤلاء المعارضون يقيمون في الداخل أم في خارج البلاد. لنأخذ مثالا قد يبدو الآن افتراضيا. لكنه يمكن أن يصبح واردا في أي وقت: لو أن إيران مثلا استقطبت عددا من المعارضين السياسيين في دولة مثل البحرين. أو السعودية أو غيرهما. ودربتهم في معسكرات الحرس الثوري الإيراني. وسلحتهم. وتعهدت بتمويلهم. ودفعت بهم إلي داخل الدولتين لمحاربة النظام الحاكم في كل منهما.. هل يمكن إطلاق وصف "المعارضة المعتدلة" علي هؤلاء. أو تأييد عملهم ومباركة توجههم؟! أضرب المثل هنا بإيران.. لكن لا أستبعد أن تقوم أمريكا نفسها بذلك كما فعلت في سوريا. في اللحظة التي تدرك فيها أن "صلاحية" النظام الحاكم في أي دولة عربية قد انتهت بالنسبة لها. وأن الحفاظ علي مصالحها يقتضي التغيير هنا أو هناك. ولماذا نذهب بعيدا ونتحدث عن "افتراضات". ونحن في مصر مثلا. مشكلتنا مع أمريكا الآن هي أنها تعتبر جماعة الإخوان - التي ترفع السلاح في وجه الشعب ونظامه. وتم توصيفها بأنها إرهابية - جماعة معتدلة يجب استيعابها سياسيا؟! هذه هي النقطة التي يجب أن يكون الموقف العربي منها موحدا. ونابعا من المصلحة العربية وليس منصاعا للمعايير المزدوجة الأمريكية.. وهو ما يثبت صحة الموقف المصري في الأزمة السورية حتي الآن.