ما يجري علي الساحة الحزبية الآن استعدادا للانتخابات البرلمانية القادمة لا يبعث كثيرا علي التفاؤل ولا يبشر بأننا يمكن أن نحظي ببرلمان في قوة التحديات التي تواجهنا ولا في مستوي الأداء الذي نحتاجه لعبور هذه التحديات إلي المستقبل. افتح أي صحيفة مصرية. قومية أو حزبية أو خاصة وانظر في الصفحات المخصصة لمتابعة أخبار استعدادات الأحزاب السياسية للانتخابات ستجد كل ما فيها يدفعك إلي هذا الاعتقاد. يومياً هناك مانشيتات عريضة تنبئك بأن أحزاب كذا وكذا وكذا انسحبت من قائمة الوفد وانضمت إلي قائمة الجنزوري.. وان أحزاب كذا وكذا وكذا انسلخت من قائمة الجنزوري وانضمت إلي الجبهة.. وان أحزاب كذا وكذا وكذا اشترطت للاستمرار في الجبهة أن تحصل علي كيت وكيت وكيت.. إلي آخره. لا أبالغ.. وإذا لم تصدقني تحامل علي نفسك وتابع ما تنشره الصحف لمدة أسبوع واحد فقط عن هذه التحركات. نحن أمام تسعين حزبا سياسيا أو يزيد أقلها يعرفها الناس بحكم ان لها تاريخاً أو ان الحياة الحزبية التي أطلقها السادات قد بدأت بها.. والغالبية العظمي لا يعرف أسماءها إلا من أسسوها.. ومع ذلك فكلها تري انها جديرة بدخول البرلمان وتسعي لعقد الصفقات مع هذا التيار أو ذاك وتثير ضجة ولا تنتج طحنا ولذلك ينصرف عنها الناس. أحزاب اليوم أشبه بائتلافات ما سمي ب "القوي الثورية" عقب ثورة 25 يناير 2011 فحين دعا المجلس الأعلي للقوات المسلحة أيامها هذه الائتلافات إلي اجتماع فوجيء بأن عددها بلغ 183 ائتلافا وان بعضها تشكل في الصالون الملحق بقاعة الاجتماع قبل بدئه بقليل.. مجموعة شباب جاءوا وسجلوا أسماءهم في ورقة وأطلقوا علي أنفسهم اسما وقدموا الورقة لسكرتارية المجلس وحصلوا علي تصريح بالحضور باعتبارهم ائتلافا. أين هذه الائتلافات الآن؟! ماذا بقي منها وماذا اختفي كما ظهر.. أخشي أن يكون هذا هو نفس مصير الأحزاب الحالية.. فقد تأسس معظمها بنفس الطريقة.. مقر ولافتة ومجموعة مؤسسين استوفت الاشتراطات التي قررها القانون من حيث الشكل حتي تحصل علي "الشرعية القانونية" لوجودها لكنها بعيدة عن الشرعية الشعبية أو الجماهيرية بعد السماء عن الأرض. أكثر هذه الأحزاب قمة بلا قاعدة.. سطح بلا جذور أو أعماق.. التيار دفع بها إلي الطفو علي سطح الحياة السياسية فتصورت انها تصنعها أو تشارك في ذلك بينما هي عاجزة عن أن تصنع نفسها ووجودها ذاته علي الأرض. ولذلك فإن كل استعدادات الأحزاب للانتخابات البرلمانية تجري علي السطح وداخل الغرف المغلقة وبأسلوب التحالفات والصفقات التي تجمع كل الأضواء والمتناقضات وتقود الاستعدادات مجموعة من الشخصيات التي لها كل الاحترام تعد علي أصابع اليد الواحدة في مشهد أشبه بالمحافل الماسونية. يحدث ذلك بينما الانتخابات نفسها عملية تفاعلية مفتوحة تجري حركتها بين الناس في البيوت والشوارع . في القري والنجوع والأحياء والمدن.. أو هكذا المفروض. لم ير الناس حزبا واحدا من الأحزاب المستجدة يقدم نفسه إليهم بأي شكل من الأشكال أو يعرض عليهم برنامجه بأي صورة من الصور.. أو يعرفهم بقياداته ورموزه ولماذا قام وما الجديد الذي يحمله لهم أو يبشر به الحياة السياسية الحزبية. لم ير الناس أي مجموعة من الأحزاب التي نشطت الآن فقط ومن أجل الانتخابات فقط لتشكيل تحالفات للفوز بمقاعد في البرلمان قد شكلت من قبل تحالفات لإطلاق مشروع قومي بالجهود الذاتية أو لتقديم خدمة جديدة مشتركة للناس أو لتنظيم حملة قومية لمكافحة مرض أو ظاهرة انحرافية في المجتمع أو لاستعادة قيم نبيلة ضاعت وتبددت في خضم الفوضي الاجتماعية والأخلاقية والسلوكية التي ضربت الوطن من سنوات. لم تقدم هذه الأحزاب السبت حتي تنتظر الأحد.. فمن أين تجيئها ثقة الناخبين أو كيف تطمع فيها؟! وأغرب ما يمكن أن تسمعه ان بعض هذه الأحزاب خصوصا التي لها سنوات طويلة علي الساحة كانت تطلب "أجلاً" أو مهلة حتي تستعد للانتخابات وكأن الانتخابات قد داهمتها دون أن تدري أو دون سابق إنذار. هل يمكن أن ننتظر برلمانا قويا من وراء هذا الذي لا يمكن تسميته إلا بالعبث السياسي؟! هل يمكن أن ننتظر برلمانا علي مستوي الفكر الذي أطلق مشروعا غير تقليدي كمشروع قناة السويس الجديدة أو علي مستوي المسئولية الوطنية في الأداء التي تتجلي فيمن يقومون بحفر هذه القناة من آلاف العاملين المصريين ليشقوا بها طريق المستقبل للملايين؟! لقد آمنت دائما ومازلت بأنه لا ديموقراطية بلا أحزاب سياسية ودافعت في هذا المكان عبر سنوات طويلة عن حرية تشكيل الأحزاب وحقها في العمل السياسي الوطني بلا قيود ولم أر ضررا أو ضرارا في أن يعبر كل حزب عن مصالح الفئة التي يمثلها أو المواطنين الذين ينتمون إليه سواء كانت هذه المصالح اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية فهذا ما تعلمناه من دراستنا للعلوم السياسية. بل اني تمنيت دائما ومازلت حياة حزبية نشطة ينخرط فيها أكبر عدد ممكن من الشعب المصري بحيث تنحسر ظاهرة "المستقلين" سواء في الحياة السياسية العامة أو في التمثيل البرلماني بحيث يصبح البرلمان تجسيدا للحياة الحزبية المنظمة وليس تمثيلاً لأفراد أو عصبيات. وأذكر انني نشرت مقالا في مثل هذا اليوم بالتحديد من عام 2009 حول هذا الموضوع أشرت فيه إلي التجربة الحزبية في ألمانيا وانعكاسها علي الحياة البرلمانية حيث يذوب الفرد في الحزب فلا يعرف البرلمان الألماني "البوند ستاج" ظاهرة النواب المستقلين لأن قانون الانتخابات هناك لا يسمح بالترشح للبرلمان إلا لمن ينتمون للأحزاب. كما تحظر لوائح البرلمان علي أي نائب أن يقدم سؤالا أو استجوابا منفردا. بل لابد أن يقدمه من خلال الهيئة البرلمانية للحزب الذي يمثله. أما نحن فمازلنا نسير في الاتجاه العكسي.. فرغم ان عدد الأحزاب جاوز التسعين حزبا كما ذكرت. فمازالت لا تمثل في مجموعها أكثر من 2 في المائة من عدد سكان مصر وبدلاً من أن تسعي هذه الأحزاب لتوسيع دائرة تمثيلها وضم أعداد جديدة إليها من خلال العمل الميداني بين الجماهير نحارب من أجل توسيع تمثيل المستقلين علي حسابها. والخوف كل الخوف من ألا يفطن من يقودون استعدادات الأحزاب الآن للانتخابات ويعقدون التحالفات إلي أن هذه التحالفات قد لا تتحول بعد الانتخابات إلي "كتل" تصويتية موحدة داخل البرلمان.. فهي تحالفات وقتية بين أضداد ومتناقضات توافقت علي مصلحة واحدة هي الفوز بمقاعد البرلمان ويمكن ببساطة أن تتفكك عقب تحقيق هذا الهدف وتتعرض لما تتعرض له الآن عند تشكيلها إلي "حركة تنقلات" فينسحب هذا الحزب أو ذاك من كتلة لينضم إلي أخري عند التصويت علي مشروعات القوانين المهمة لأن التصويت عندئذ ستحكمه المصلحة الحقيقية لما يمثله الحزب من فكر أيديولوجي ومصالح واقعية. ولا حل لهذه المعضلة إلا بأن يرتبط كل تحالف أو ائتلاف حزبي انتخابي بميثاق يوقعه أطرافه ويحدد فيه القواسم الاستراتيجية المشتركة التي تجمعهم وأن يتعهدوا باستمرار هذا التحالف خلال الدورة البرلمانية ويضعوا الشروط اللازمة لانسحاب أي طرف منه. أما في غير ذلك فسوف تحتاج أي حكومة تتعامل مع البرلمان القادم إلي بذل جهد هائل للتواصل إلي توافق بين الكتل والمجموعات البرلمانية المختلفة يوفر لها النصاب القانوني اللازم من الأصوات لتمرير مشروعاتها. ليس لأنها تتعامل مع برلمان قوي.. بل لأنها تتعامل مع برلمان مفكك تعلو فيه أحياناً المصالح الفئوية علي المصلحة الوطنية.. وهذا هو الخطر الأكبر.