وقعت في العقود الماضية أحداث مريرة تكشف واقعاً أليماً عاشه الشعب المصري ولا يزال يعيشه. فقد شكا لي صديق أن وزارة الداخلية قامت بعزل شقيقه من وظيفة شيخ خفر قريتهم بعد عامين من تعيينه بسبب أنهم اكتشفوا فجأة أن أحد أفراد عائلته ينتمي إلي إحدي الجماعات الإسلامية رغم أنه ينتمي لفرع بعيد من العائلة وليس قريباً من الدرجة الأولي. وشكي لي صديق آخر أن ابنه لم يتم قبوله في إحدي الكليات العسكرية لأن زوج ابنة خالته سائق توك توك. وهناك اختيار للكليات العسكرية يسمي السمات يتم بموجبه استبعاد عدد كبير من المتقدمين بسبب الأوضاع الاجتماعية أو الاقتصادية. وبنظرة سريعة إلي البيانات المطلوبة في طلب التقدم للكليات العسكرية أو كلية الشرطة أو الهيئات القضائية أو السلك الدبلوماسي يتضح لنا التركيز علي معلومات بعيدة عن اللياقة العلمية واللياقة البدنية وتتعلق بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تتفاوت بشدة بين المواطنين. ولا تزال ماثلة في الأذهان حادثة انتحار الشاب المصري المجتهد عبدالحميد شتا في مايو عام 2004 بعد تخرجه بتفوق في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. وحصوله علي الترتيب الأول في اختبارات القبول الملحقين التجاريين ولكنه منع من الالتحاق بالوظيفة لأن والده عامل في مصنع طوب بإحدي قري مركز ميت غمر رغم شهادات زملائه وأساتذته بنبوغه وجدارته العلمية. وفي 18 نوفمبر 2013 وبعد حوالي 3 سنوات من إسقاط نظام مبارك تنقل إلينا وسائل الإعلام عن إصابة فلاح صعيدي بجلطة في مخه أودت بحياته نتيجة صدمته باستبعاد ابنه من وظيفة معاون نيابة ضمن 138 من خريجي كلية الحقوق. دفعتي 2010 2011. من قبل المجلس الأعلي للقضاء بسبب عدم حصول والدهم علي مؤهل عالي. والغريب أن أحد أعضاء مجلس القضاء الأعلي المسئولين. اعترف في حديث صحفي في صحيفة "المصري اليوم" بوجود معيار الصلاحية الاجتماعية والاقتصادية ضمن معايير قبول الخريجين وقال "إن مجلس القضاء الأعلي يختار قضاة لابد أن يكونوا مكتملين من جميع الجوانب. وتكون هناك نسبة للمجموعة ونسبة للصلاحية الاجتماعية عند الاختيار". ومما أثار استياء واسعاً أن أحد المستشارين ويشغل نائب رئيس محكمة النقض قال في حوار علي قناة فضائية مصرية في سبتمبر 2014: "لا نقبل ابن عامل النظافة في النيابة. بسبب حساسية منصب القاضي. ووكيل النيابة". وتناقلت إلينا أنباء عن عدم قبول شباب لائقين علماً وبدنياً في وظائف مرموقة بزعم "عدم اللياقة الاجتماعية". أري أن هذا المصطلح يعد سبة علي جبين مصر. اخترعه مجموعة من الانتهازيين الذين تسللوا بطرق غير مشروعة إلي المواقع القيادية في بلدنا وشكلت بينها شبكة علاقات تبادل المصالح فيما يشبه المافيا وتعمل علي احتكار الوظائف لأبنائها وأقاربها وأنسابها. حتي ولو كانوا غير مؤهلين. وبلغت هذه العصابة من الفجور أنها تحجز الوظائف للمحاسيب والأقارب والأبناء عدة سنوات. ولدي واقعة لزميل كان يدرس الهندسة وتم تحويله رغما عنه للدراسة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ثم رأيناه بعد التخرج بشهور يعمل بالسلك الدبلوماسي. بل إن المحسوبية ظلت تحرسه طوال فترة عمله لتختار سفارات تقع في نطاق الدرجة "أ" حيث المرتب المرتفع والموقع الجغرافي المميز "أوروبا وأمريكا". بينما يترك الدبلوماسي "غير المسنود" لعمل في نطاق الدرجة "ج" حيث المرتب المنخفض والموقع في نصف القري الجنوبي "إفريقيا". ويمكننا مراجعة صفحات الوفيات في الصحف اليومية لنري ان عائلات بعينها تسللت إلي الوزارات السيادية والمؤسسات الحيوية في المجتمع. ويري البعض أن مصطلح "اللياقة الاجتماعية" يهدم مبدأ "العدالة الاجتماعية" الذي رفعته ثورة25 يناير 2011. ورفعته من قبل ثورة 23 يوليو 1952. وأنه يكرس التفرقة والتمييز العنصري بين المصريين. ويتعارض مع دستور عام 2013 الذي يتطلع المصريون لتطبيقه ليعيد التوازن إلي المجتمع ويقضي علي الطبقية البغيضة التي كرسها نظام مبارك حيث ورد في دباجته "نكتب دستوراً يحقق المساواة بيننا في الحقوق والواجبات دون أي تمييز". ويطالب المصريون بمنح أولوية للمادة "14" التي تنص علي: "الوظائف العامة حق للمواطنين علي أساس الكفاءة. ودون محاباة أو وساطة. وتكليف للقائمين بها لخدمة الشعب. وتكفل الدولة حقوقهم وحمايتهم. وقيامهم بأداء واجباتهم في رعاية مصالح الشعب. ولا يجوز فصلهم بغير الطريق التأديبي. إلا في الأحوال التي يحددها القانون". ومن وجهة نظري أري أن العصابة التي اختلقت وروجت عبارة "غير لائق اجتماعيا" يجب محاكمتها بتهمة الخيانة العظمي. لأنها تتعمد تدمير الوطن بإسناد الأمر لغير أهله واستبعاد الكفاءات التي تملك القدرات علي النهوض بالوطن.