بين عمالقة فن الكاريكاتير في مصر بل وفي العالم العربي والشرق الأوسط يقف فناننا الراحل أحمد طوغان وحده متفردا بثلاثة أسلحة كان وحده يمتلكها بين فناني الكاريكاتير فقد امتلك ريشته كفنان تشكيلي ورسام كاريكاتير سياسي من الطراز الأول وامتلك أيضا قلمه سلاحا آخر.. يكتب ويعبر وينير ويناقش ويسجل. أما سلاحه الثالث فكان البندقية نفسها.. التي امسك بها طوغان وهو يخوض بنفسه المعارك متطوعا ومشاركا في حروب الاستقلال في الشمال الأفريقي.. يشارك في حرب اليمن ويرافق المقاومة الفلسطينية. وهكذا فإن طوغان قد مارس بالأسلحة الثلاثة معاركه كلها. التي كانت معارك الوطن كله ومعارك أمته العربية.. وبقيت من هذه الأسلحة كلها سلاح الكلمة وسلاح الريشة يخلدان مسيرة حياة امتدت 86 عاماً.. وطوغان كان يكتب الكلمة ويعبر عنها بالريشة.. وريشته باقية علي جدران مؤسستنا منذ اهتم بانتقاء عدد من رسومه المعبرة عن تاريخ مصر وأهم الأحداث التي مرت بها في خمسين عاما. عند احتفالنا في 7 ديسمبر 2013 بالعيد الخمسين للجمهورية.. وكانت هذه الأيام هي بداية احتكاكي المباشر بالأخ العزيز الراحل طوغان.. فقد كلفني رئيس مجلس إدارة المؤسسة في تلك الفترة بالإشراف علي احتفالات العيد الخمسين. فكان لقائي بطوغان رحمه الله شبه يومي نتناقش ونتدارس ونسترجع معا ذكريات الأيام الأولي للجمهورية ونشارك في ندوات تتناول تاريخ الجمهورية. وقد عاصرت أنا هذه الأيام الأولي للجمهورية قارئا.. أما طوغان فقد عاصرها مؤسسا ومشاركا في إصدارها منذ اللحظة الأولي وهي فكرة.. وكان طوغان أحد الرعيل الأول الذين شاركوا في إصدار الجمهورية في عام ..1953 ولم يبق منهم الآن علي قيد الحياة سوي اثنين من الزملاء أمد الله في عمرهما أولهما الشاعر محمد التهامي الذي شغل منصب مدير التحرير وثانيهما الفنان والخطاط الكبير محمود إبراهيم الذي كان رئيسا لقسم الخط وشغل أيضا منصب مدير التحرير.. أما طوغان فإن رسومه علي صفحات الجمهورية لم تتوقف عبر تاريخها الطويل إلا عندما تولي أمر الجمهورية في فترة من الفترات من لا يقدر قيمة هذا العملاق فكان قراره بعدم التجديد له.. وهو ما أزعج طوغان غاية الازعاج وعزم علي مقاضاته.. ولكن طوغان بعد رحيل ذلك المسئول عاد إلي صفحات الجمهورية مرة أخري يمارس إبداعه وتألقه.. ثم حدث أن احتجب مرة أخري.. ولم يقدر له أن يعود إلي موقعه في صفحات الجريدة بعد أن كان قد وافق الزميل فهمي عنبه رئيس التحرير أن يواصل إبداعه علي صفحات الجمهورية.. ولكن القدر أدلي بكلمته.. قبل أن يمسك طوغان بريشته. وكانت الفترة التي اقتربت فيها كثيرا من الراحل العزيز طوغان هي فترة احتفالاتنا بالعيد الخمسين للجمهورية.. وقد جلست معه يتذكر الأيام قبل ثورة يوليو وما رسمه من كاريكاتير قبل الثورة فذكر لي واحدا من رسومه الشهيرة التي يتنبأ فيها بثورة يوليو حيث رسم الملك فاروق ممسكا بزمام أحد الجياد.. وكتب تحتها "متي يفلت الزمام؟". ويصف طوغان علاقته بالرئيس الراحل أنور السادات بأنها كانت علاقة وطيدة.. وكان بين "شلة" الأصدقاء حسين توفيق وسيد توفيق وعبدالعزيز خميس وإبراهيم كامل.. ومن هؤلاء كان متهما مع أنور السادات في قضية اغتيال وزير المالية الأسبق حسين عثمان الذي وصف العلاقة بين مصر وانجلترا بأنها زواج كاثوليكي لا انفصام فيه.. فقامت مصر ولم تقعد.. فقد جاء وقع هذه الكلمات علي كل مصري بالغ القسوة. في ظل ثورة الشباب المناضل ضد الاحتلال البريطاني. وانتهي الأمر باغتيال حسين عثمان.. وللأسف كانت نفس الغلطة من نصيب وزير الخارجية السابق نبيل فهمي الذي وصف فيها العلاقة بين مصر وأمريكا بعلاقة زواج..!! ومن خلال علاقة طوغان بالسادات. كان طوغان واحدا من الذين اختارهم السادات ليشاركوه انشاء الجمهورية وليشترك طوغان في كل المراحل التي مرت بها "الجمهورية" حتي صدرت في 7 ديسمبر .1953 ومن ذكرياته التي يعتز بها في الجمهورية فترة مواجهة العدوان الثلاثي في عام 1956 التي أقامت فيها كل أسرة التحرير في مبني الجريدة أكثر من 10 أيام تتابع إصدار الملاحق وتحث الشعب علي النضال ومواجهة العدوان. ونفس هذه الفترة كان رفيق صباه ونضاله محمود السعدني في بيروت فأصدر من هناك طبعات خاصة من "الجمهورية" بالاتفاق مع احدي الصحف اللبنانية يتابع فيها أخبار العدوان علي مصر.. وكانت هذه هي المرة الأولي التي تصدر فيها طبعة للجمهورية من خارج مصر.. بل المرة الأولي للصحافة المصرية كلها. وعندما احتفلنا بعيد الجمهورية الخمسين.. ثار هناك سؤال عن علاقة هيئة التحرير بإصدار "الجمهورية".. وقد تبنيت أنا وجهة نظر أن "الجمهورية" لم يكن لها علاقة بهيئة التحرير إلا في طلب الإصدار فقط.. حيث كان لابد هناك من جهة يتبعها هذا الطلب الذي صدر باسم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.. وكان دليلي في هذا انه من أول عدد للجمهورية كتبت الجمهورية أنها لم تصدر لتعبر عن هيئة أو جهة.. وإنما صدرت لتعبر عن الشعب وثورته.. وقد أيدني في هذا الفنان أحمد طوغان رحمه الله والشاعر محمد التهامي أمد الله في عمره.. وقال طوغان لي إن عبدالناصر هو صاحب الامتياز والذي كلف السادات بالتنفيذ وكان يتابع معه كل كبيرة وصغيرة ويوما بيوم حتي صدرت وكانت كلماته علي الصفحة الأولي منذ يوم صدورها وأحيانا يوقعها وأحيانا لا يوقعها. والتاريخ النضالي للفنان أحمد طوغان حافل بالجبهات التي حمل سلاحه وذهب يناضل فيها.. بداية من نضاله علي جدران شوارع القاهرة ضد الانجليز برسومه الكاريكاتيرية التي يسخر فيها من الانجليز ويصورهم وهم يفرون مذعورين أمام الألمان.. وكان ذلك في الأربعينيات من القرن الماضي والمصريون يتطلعون إلي فوز الألمان بالحرب علي قاعدة عدو عدوي هو صديقي وأملا كاذبا في أن ينقذهم الألمان من احتلال الانجليز. وعندما قامت حرب فلسطين في عام 1948 كان طوغان وصديقه محمود السعدني بين من تقدموا للتطوع في هذه الحرب ولكن لأن السعدني لم يقبل لقصر قامته وضعف بنيته فإن طوغان أيضا لم يذهب رغم قبوله وانه كان يريد أن يصحبه السعدني.. وهي صحبة كان طوغان حريصا عليها بعد ذلك في كثير من سفراته ومشاركاته النضالية. وأشهر المشاركات النضالية لطوغان كانت خلال الحرب الجزائرية.. حيث شارك مقاتلا مع جبهة التحرير ضد الاحتلال الفرنسي.. كما شارك أيضا في الحرب اليمنية في الستينيات من القرن الماضي.. وفي كل ما خاضه من معارك كان الذهن يعي الأحداث.. والصور أيضا.. ليعود ليسجل ما عاشه حاملا البندقية.. بباقي الأسلحة التي يملكها: القلم والريشة.. والفنان أحمد طوغان من مواليد صعيد مصر.. ولد في عام ..1926 وكان والده ضابط شرطة.. فتنقل معه وأسرته مع كل تنقلاته في وظيفته.. فبدأ في ديروط حيث درس مرحلته الابتدائية في مدرسة ديروط الابتدائية للأقباط.. ثم انتقل إلي أسيوط ثم استقر أخيرا في الجيزة ليواصل دراسته في مدرسة الأورمان. وبدأت موهبته في الظهور منذ كان في المرحلة الابتدائية.. ليستمر طوال حياته التي امتدت 86 عاما هاويا ومحترفا لفن الكاريكاتير. ويحصل علي وسام العلوم والفنون وجائزة علي ومصطفي أمين ثم يتوج مشواره بأعلي جوائز الدولة وهي جائزة النيل. وكما تتوج هذه الجوائز هامة أحمد طوغان فإن سلسلة كتبه إلي جانب رسومه باقية تخلد مسيرة حياته وقد أصدرها تصور مراحل شارك فيها بنضاله كما فعل في كتابه "أيام المجد في وهران" عن الأيام التي شارك فيها جبهة التحرير الجزائرية النضال ضد الاستعمار الفرنسي وكما فعل في كتبه عن ثورة اليمن التي أصدر عنها سبعة كتب وكما حدث عن المقاومة الفلسطينية التي سجل أحداثها أصدر كتابه: "دور الكاريكاتير في قضية فلسطين".. وكتابه "قضايا الشعوب" الذي كتب مقدمته الرئيس أنورالسادات.. وقد وصلت الكتب التي أصدرها إلي 14 كتابا.. كما أقام أيضا الكثير من المعارض الفنية.. واحد منها كان في الصين بلغ عدد مشاهديه أكثر من مليوني زائر خلال طوافه بالصين. وأملي أن تجد الكثير من رسومه طريقها إلي الصفحة الأولي في الأيام القادمة.. فكثير منها لو تابعته تجده كأنه رسم اليوم.. رحم الله أخي العزيز أحمد طوغان وألهمنا فيه الصبر الجميل.