الإخوان المسلمون السودانيون يحكمون جنوب الوادي منذ قيام عمر البشير بانقلابه العسكري عام 1989 علي الحكومة المنتخبة ديموقراطياً. أي الانقلاب علي حكومة وصلت إلي الحكم عن طريق صناديق الاقتراع. التي تتباكي عليها جماعة الإخوان المسلمين في مصر الآن وتعتبرها قدس الأقداس متناسية أنها داست عليها بالأقدام مراراً وتكراراً مثلما حدث في السودان! وعندما قام "إخوان السودان" بانقلابهم العسكري منذ نحو ربع قرن أطلقوا علي حكمهم اسم جبهة "الإنقاذ". وأطلقوا علي مشروعهم الفكري والسياسي اسم "المشروع الحضاري". وفي الأيام الأخيرة قام الرئيس البشير بعملية تغيير واسعة النطاق في أشخاص النخبة الحاكمة. الأمر الذي أصاب الكثيرين بالحيرة في محاولة تفسير هذا "الانقلاب". والمحللون السودانيون حائرون بين ثلاث نظريات بهذا الصدد: الأولي تري أن "ثمة تحركات سياسية هامة جرت خلف الكواليس مع الرئاسة منذ فترة وتطورت مؤخراً مع بعض القوي السياسية المؤثرة. والأهم من ذلك مع جهات خارجية إقليمية ودولية ذات تأثير مباشر علي النظام وزعامته مفادها أنه قد حان الوقت ليخرج صقور "الإنقاذ" من كابينة الجهاز التنفيذي والتشريعي تمهيداً لوضعية سياسية جديدة تقبلها تلك الجهات.. وفي مقابل ذلك تتم معالجة ملفات هامة منها معضلة المحكمة الجنائية الدولية وملفات دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق والعلاقة مع دولة الجنوب والمشكل الاقتصادي". والنظرية الثانية سلط عليها الضوء الكاتب السوداني محجوب عروة. في "الجريدة" السودانية. وملخصها "أن ما حدث هو مجرد تغيير شكلي. بل تكتيكي. لكسب المزيد من الوقت للنظام ليلتقط أنفاسه خاصة بعد الصدمة التي أحدثتها قرارات زيادة أسعار المحروقات وتداعياتها من رفض ومظاهرات واسعة هزت الوضعية السياسية للنظام بشكل غير مسبوق". والنظرية الثالثة من تأليف عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية السابق وخلاصتها أن "التغيير الذي طرأ في مؤسسة الرئاسة والحكومة الاتحادية ليس انقلاباً أو صراعاً بين العسكريين والسياسيين في حزب المؤتمر الوطني الحاكم. إنما ترتيبات أقرها المؤتمر الوطني لبناء السودان". النظرية الأخيرة استفزت الكثيرين. ومنهم علي سبيل المثال حيدر أحمد خير الله. الذي رد علي النائب الأول السابق قائلاً: "تستوقف المرء بكثير من العجب عبارة "بناء السودان". إذن ماذا كانت تلكم السنوات العجاف التي شارفت ربع القرن؟! وأي تغيير يرتجي من هذه الجماعة التي حازت أطول فترة حكم في تاريخنا المعاصر؟! ولو أن الجماعة في الحزب الحاكم كانت حريصة علي بناء السودان لاعترفت للشعب بالفشل الذي لازمهم وهم يرون شعبنا يعاني الأمرين. وبلادنا انقسمت. واقتصادها علي حافة الانهيار. وحازت علي المركز الرابع في ترتيب الدول الفاشلة. ومجتمعنا يعاني الجوع. وفئة قليلة تعاني التخمة. والفساد الذي استشري وزكم الأنوف. وبعد أن يوجه حيدر خير الله هذه القائمة من الاتهامات المشينة للنظام الحاكم يقول: "إن أفضل بناء يقدمه الحزب الحاكم لأهل السودان هو التنازل عن الحكم مع اعتراف كبير بالفشل وتسليم البلد لأهله.. فالحزب الحاكم بحاجة إلي التطهير لا التغيير. نتيجة فشل مشروع الجماعة الإسلامية بعد ربع قرن من التيه". *** الخلاصة أن هناك ما يشبه الإجماع بين المحللين والمراقبين علي أن الوضع في السودان أخطر من أن يتم ترميمه بتغيير الجلد أو إجراء تغييرات شكلية. وأن جوهر المشكلة التي يواجهها نظام البشير اليوم هو فشل المشروع الإخواني لإقامة دولة دينية تحت لافتة "المشروع الحضاري". وهو ما عبرت عنه الكاتبة السودانية شمائل النور بتشديدها علي فشل "مشروع الدولة الإسلامية بالسودان. الذي قام علي مصادرة حريات الآخرين وفرض هوية تسمي إسلامية بالقانون والقوة لتحل محل الثقافات المتعددة. وفي نهاية الأمر ما النتيجة؟ انقسم الوطن إكراماً للمشروع الحضاري. وبقية أجزائه يهددها ذات المصير لذات الأسباب". باختصار.. حكم "إخوان السودان" يواجه أوقاتاً عصبية ويستقطب عداء قطاعات متنامية من السودانيين. ولم تعد تنفعه عمليات التجميل أو تغيير الجلد. وعلي الأرجح أن ما فعله ويفعله "إخوان مصر" في شمال الوادي يساهم في الإسراع بنهايتهم في جنوب الوادي.