الخوف من فشل القمة هو الذي دفع إلي اقصا القضايا السياسية جانبا والتركيز علي القضايا الاقتصادية في القمة العربية - الافريقية الثالثة التي تنعقد اليوم في الكويت علي مستوي الملوك والرؤساء والأمراء وتختتم أعمالها غدا.. بعد أن سبقتها اجتماعات تحضيرية علي مدي الأيام الماضية تمت علي مستوي كبار المسئولين ووزراء الخارجية للاتفاق علي جدول أعمال القمة ومشروع البيان الختامي. حتي القضايا السياسية المتفق عليها مثل القضية الفلسطينية لم يرد لها أي ذكر في مشروع البيان الختامي وكل ما جاء في هذا المشروع مما قد يعتبره البعض من الأمور السياسية هو كلام عام جاء في فقرتين قصيرتين.. الأولي تحمل رقم "3" في الاتفاق التي تم الاتفاق عليها وتنص علي دعوة الحكومات والجهات الأخري ذات الصلة لايجاد تسوية سلمية للأزمات السياسية في المنطقتين العربية والافريقية والثانية تحمل رقم "6" وتنص علي التأكيد مجددا علي الالتزام بالإصلاح الشامل لمنظومة الأممالمتحدة بما في ذلك مجلس الأمن وذلك لكي تعكس الحقائق الدولية الراهنة وكذلك لجعلها أكثر توازنا من الناحية الاقليمية وفاعلة ومقتدرة. صحيح ان شعار القمة هو "شركاء في التنمية والاستثمار" لكن المنطق يقول ان الشراكة لا يمكن ان تقوم بين دول بينها نزاعات سياسية سواء كانت هذه النزاعات علي الحدود أو علي المياه أوحتي علي صيد السمك في المياه الاقليمية لذلك يجب أن تخصص القمة قسطا من أعمالها لمناقشة النزاعات بين الدول الأعضاء فيها.. لا أقول لوضع الحلول وإنما علي الأقل لوضع هذه النزاعات علي طريق الحل بناء علي مباديء القانون الدولي. أنا مثلا كمواطن مصري بدأ يعاني في بلده من ارتفاع اسعار المواد الغذائية بسبب نقص مياه النيل انتظر من هذه القمة أن تعلن في بيانها الختامي عن تضامنها مع مصر في الحصول علي حصتها القانونية من مياه النيل وتطالب اثيوبيا بوقف العمل في مشروع سد النهضة لأنه سيؤدي إلي انخفاض كمية المياه التي تصل إلي مصر ولا مانع أبدا من ان يرتكز موقف القمة في هذا الموضوع علي مباديء القانون الدولي باعتبار اننا نعيش في نظام دولي يحترم القوانين ولسنا في غابة. لذلك اطالب الوفد المصري في قمة الكويت بطرح مشكلة سد النهضة الأثيوبي للمناقشة أمام أعضاء القمة لأنه ليس من المقبول أبدا أن تضيع علي مصر فرصة مؤتمر قمة بهذا المستوي ولا يتخذ فيه قرار يحسم هذه المشكلة..لقد كان الخوف من فشل القمة هو الهاجس المسيطر علي عقول أغلب أعضاء الوفود المشاركة فيها فجاء مشروع البيان الختامي خاليا من أية اشارة إلي القضايا السياسية الحساسة التي يمكن ان يفجر النقاش فيها أعمال القمة ووجدنا المشروع يركز علي قضايا من نوع تعزيز التعاون الاقتصادي ودعوة القطاع الخاص لعقد اجتماعات منتظمة وتنظيم المعارض المشتركة والاهتمام بحقوق الإنسان وحقوق المرأة لكن كل هذه القضايا لا يمكن ان تروي عطش المصريين لذلك يجب علي الوفد المصري الخروج من المؤتمر بقرار واضح وحاسم وصريح بشأن مشروع سد النهضة يلزم اثيوبيا بوقف العمل فيه فورا والا يصبح من حق مصر بعد ذلك اللجوء إلي خيارات أخري تجعل من سد النهضة كأن لم يكن! *** اقصاء القضايا السياسية عن جدول أعمال القمة كان موضوعا لأسئلة الصحفيين في المؤتمر الصحفي الذي عقده نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الكويتي الشيخ صباح الخالد مساء يوم السبت الماضي وقد أجاب الرجل بدبلوماسية كبيرة تعكس حرص الكويت علي تقريب وجهات النظر وعدم اثارة الأزمات.. قال: ان القضايا السياسية تشغل اهتمام العالم بأسره بما فيه عالمنا العربي واصدقاؤنا في افريقيا ونحن لسنا بمعزل عن القضية الفلسطينية أو ما يحدث في سوريا الذي يؤلمنا جدا وهذه القضايا تطرح في العديد من المحافل الدولية والاقليمية ولا يمكن ان تقوم الأسس الاقتصادية والاستثمارية بمعزل عنها لكونها مهمة ونحن نحاول ان يكون تركيزنا في القمة العربية - الافريقية علي ترجمة شعار شركاء في التنمية والاستثمار دون اغفال القضايا السياسية التي تشغل عالمنا. *** مبررات الخوف من فشل القمة ربما تعود إلي أن هذه المؤسسة الاقليمية وهي القمة العربية - الافريقية مازالت في مهدها وبالتالي يجب العمل علي تقويتها أولا ثم بعد ذلك تتصدي للقضايا السياسية والنزاعات في المنطقتين العربية والافريقية لاسيما ان هاتين المنطقتين مليئتان بالمشاكل والنزاعات التي تفوق قدرة أي منظمة دولية علي حلها بما في ذلك الأممالمتحدة. أي أننا مازلنا نعيش أجواء ميلاد تجمع دولي جديد يعيش مراحله الأولي التي تشبه "شهر العسل" في الزواج وبالتالي فنجاح الزيجة يتطلب عدم اثارة المشاكل في شهر العسل!..لعل هذا ما جعل نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الكويتي الشيخ صباح الخالد ينظر طوال المؤتمر الصحفي إلي النصف المملوء من الكوب وكلما حاولنا ان نلفت نظره إلي النصف الفارغ من الكوب يقول بل انظروا إلي النصف المملوء فهو مثلا اعتبر ان القمة حققت جزءا مهما من نجاحها لمجرد انعقادها بصورة دورية لأول مرة بعد مرور ثلاث سنوات علي القمة الثانية التي عقدت في مدينة سرت الليبية. هذا صحيح.. ويجب أن نسجل لقمة الكويت انها أسست لمنظومة الانعقاد الدوري للقمة العربية - الافريقية كل 3 سنوات.. هنا لابد أن أشير إلي أن الفضل في ذلك يرجع إلي مبادرة أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الدبلوماسي العريق الذي قاد للدبلوماسية الكويتية لمدة نصف قرن وادرك بخبرته السياسية اهمية احياء منظومة القمة العربية - الافريقية بعد ان تعطلت لمدة 33 سنة منذ انعقاد القمة العربية - الافريقية الأولي في القاهرة عام 1977 إلي انعقاد القمة الثانية في سرت عام 2010 فقام الشيخ صباح الأحمد بالدعوة لاستضافة الكويت للقمة الثالثة هذا العام. يجب أن نسجل ايضا للكويت هذه الكفاءة العالية التي أظهرتها في الاعداد لاستضافة المؤتمرات الدولية فأصبح لديها فرق ولجان وكوادر فنية تعمل في كافة المجالات من أجل انجاح هذه المؤتمرات بدءا من استقبال الضيوف في المطار وتسكينهم وتسهيل انتقالاتهم حتي ان الحرس الوطني أجري تدريبات حية لحماية وتأمين ضيوف القمة وجهاز المرور أجري بروفة أمنية كاملة علي خط سير مواكب وفود الدول المشاركة في القمة لتحقيق أعلي قدر من التنسيق والتعاون بين أجهزة الأمن والجيش والحرس الوطني والطواريء الطبية كما نشرت الكويت زوارق ودوريات اعتراضية في مياهها الاقليمية تحسبا لاقتراب أيا من مرتادي البحر من أماكن اقامة الوفود المشاركة في القمة إلي جانب ذلك قامت وزارة الاعلام باعداد برنامج حافل بالزيارات الميدانية للوفود الاعلامية المشاركة في القمة لاطلاعهم علي المعالم الثقافية والتاريخية والسياحية في الكويت. أما المركز الاعلامي فقد تم تجهيزه بمختلف وسائل الاتصال الحديثة من أجهزة كمبيوتر وانترنت واستديو تليفزيوني وآخر اذاعي بالاضافة إلي قاعة للمؤتمرات الصحفية مزودة بفريق للترجمة الفورية إلي اللغات الانجليزية والفرنسية والبرتغالية.. قام بافتتاح المركز الاعلامي الشيخ محمد العبدالله المبارك الصباح وزير الدولة لشئون مجلس الوزراء ووزير الصحة ورئيس اللجنة العليا للمؤتمرات التي تعقد بالكويت واعلن عقب الافتتاح ان القمة العربية - الافريقية الثالثة يشارك فيها 71 وفدا يمثلون 62 دولة افريقية و9 منظمات وهيئات دولية. من بين رؤساء الوفود 34 رئيس دولة و7 نواب رؤساء و3 رؤساء حكومات وقد وجهت الدعوة إلي الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين بصفته رئيس مجموعة العشرين كما وجهت الدعوة إلي رئيس مجموعة الدول الثماني الاسلامية ورئيس حركة عدم الانحياز. *** أعود إلي المؤتمر الصحفي الذي عقده نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الشيخ صباح الخالد.. لقد أشار الرجل إلي التزام الأفارقة بانعقاد مؤتمراتهم بصفة منتظمة أكثر من الدول العربية قال بالحرف الواحد: نود أن نؤكد ان اصدقاءنا في افريقيا سبقونا كثيرا في عالمنا العربي إذ كنا نحن في الجامعة العربية لم نستطع في فترات سابقة استمرارية عقد قمم عربية كاملة لكنهم منتظمون منذ سنوات في عقد الاجتماعات مهما كانت ظروفهم ومهما كانت الأسباب.. التجمعات الاقليمية لديهم ايضا منتظمة في اجتماعاتها وتناقش فيها كل الأمور لمواجهة المشاكل التي تحدث ونري انعكاس هذا الالتزام علي عملهم بايجابية. اضاف نحن نود أن نكون في العالم العربي علي هذا المستوي العالمي من الالتزام في قممنا. *** بقي ان اقول ان نجاح قمة الكويت لن يتحقق بتجاهل القضايا السياسية في المنطقتين العربية والافريقية بدعوي ان شعار القمة اقتصادي تنموي وإنما سوف يتحقق النجاح بحجم القدرة علي اقتحام القضايا السياسية الحساسة واعلان مواقف واضحة منها. لعل ذلك هو ما أدي إلي ظهور اجواء جديدة في القمة أفرزت صراعا بين تيارين.. أحدهما يدعو إلي قصر المناقشات في القمة علي القضايا الاقتصادية التزاما بالشعار الذي ترفعه وهو "شركاء في التنمية والاستثمار" من أجل التوصل إلي توافق عام حول القرارات التي تصدرها القمة والتيار الثاني يطالب بفتح الملفات الحساسة حتي لا تصبح هذه القمة مجرد قمة "بروتوكولية". الكويت طرحت مبادرة لتقريب وجهات النظر بين التيارين.. رأت فيها ان القمة العربية - الافريقية الثالثة بالكويت يجب أن تؤسس لعصر جديد يختلف تماما عن الماضي القريب الذي اتسمت فيه العلاقات العربية - الافريقية بحالة عدم الاستقرار.