تشتمل الشريعة الإسلامية علي كثير من الأحكام التي تعتبر مظهراً لاعتدادها بالتعبير الإنساني. ومن أهم تلك المظاهر حرية التعبير. وحق الرجوع فيه ما لم يقع ثمة ضرر علي الغير. وبمعني أوضح أقول : من حق كل إنسان أن يعبر عما في نفسه. باللفظ الذي يختار. وبالشكل الذي يريد. وله أن يتراجع أو أن ينسحب من هذا التعبير في الوقت المناسب له. بشرط واحد : وهو ألا يقع ضرر أو إضرار. "1" أما بيان حق الإنسان في التعبير عما في نفسه باللفظ الذي يختاره. فلأن الشريعة الإسلامية قد جعلت الأصل العام في الألفاظ الذي يسعفه. لأن صيغة التعبير غير مقصودة لذاتها. وإنما يراد من تلك الصيغة الافصاح عن الإرادة. فإذا وجد ما يدل عليها فقد تحقق المراد. واستثناء من هذا الأصل العام. في حرية اختيار ألفاظ التعبير : فإنه يجب الالتزام بالألفاظ المحددة في أمور العبادات. كالصلاة والتعبد بالقرآن الكريم. لأن معني العبادة : الالتزام المطلق بما ورد. وفي المعاملات الحياتية : يري بعض الفقهاء ضرورة التقيد بألفاظ تعبيرية خاصة. وذلك في العقود التي يفضي تغيير ألفاظ إنشائها إلي لبس أو محظور. ومن ذلك ما نص عليه نفر من الحنفية وبعض الشافعية بأن عقد السلم الذي يقع علي المبيع الموصوف في الذمة بثمن عاجل لا ينعقد بلفظ البيع. بل لابد من لفظ السلم أو السلف. أو ما اشتق منهما. بدعوي أن هذا اللفظ وضع لهذا النوع من التعامل. فإذا استبدلوه بلفظ آخر كالبيع مثلاً اختلط معه. فلم يمكن التمييز بينهما. ومن ذلك أيضا : ما نص عليه الشافعية والحنابلة بأن عقد النكاح لا ينعقد بلفظ البيع أو الهبة أو الصدنة مثلاً. بل لابد من لفظ الانكاح أو التزويج أو ما اشتق منهما. بدعوي عدم اللبس بين تلك العقود. ولكون عقد النكاح يتضمن معاني عبادية محضة. فكان كالصلاة. ويري جمهور الفقهاء : صحة إبرام العقود والتصرفات الحياتية بكل لفظ يحقق المقصود. يقول ابن تيمية : لأن الشارع لم يحد ألفاظ العقود حداً. بل ذكرها مطلقة. فكما تنعقد العقود بما يدل عليها من الألفاظ الفارسية والرومية. وغيرهما من الألسن العجمية. فهي تنعقد بما يدل عليها من الألفاظ العربية. "2" وأما بين حق الإنسان في التعبير عما في نفسه. بالشكل الذي يريد. فلأنه لما كان التعبير أعم وأشمل من أن يكون بالألفاظ والعبارات. فإن الشريعة الإسلامية لا تمنع في حكم الأصل أن تقع معاملات الناس بالكتابة والإشارة والفعل. وكل ما يستدل به علي الإرادة. غير أنه : لما كانت الألفاظ والعبارات هي أوضح الدلالات علي ما في النفوس عند الناطقين. والتعامل بها يقطع أو يقلل من التنازع. فقد ذهب فقهاء الشافعية إلي القول بأن التعبير بالكتابة أو الإشارة. للقادر علي النطق. من باب الكناية. يحتاج في اعتباره إلي نية وأمارة تدل علي إرادته. كما أبطلوا التعامل بالفعل. وهو ما يسمي بالتعاطي. علي المذهب عندهم. لما يفضي التعامل به إلي النزاع. وذهب بعضهم. في وجه إلي مشروعية التعاطي في المحقرات. كالتعامل في السلع تافهة الثمن. ويري جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة : صحة تعامل الناطقين بما يرون من إشارة أو كتابة أو فعل "تعاطي" طالما دل ذلك علي الإرادة عرفاً. لأن مشروعية المعاملات قد وردت دون تقيد لكيفيتها. فوجب الرجوع فيه إلي العرف. ويستثني من ذلك عقد النكاح لخطره. لا يجوز عقده إلا بالألفاظ للقادر عليها. وذهب الحنفية : إلي أن عقد النكاح كسائر العقود لا يختلف عنها في ذلك.