الدبلوماسية الصينية تحرص دائماً علي صورتها في الخارج باعتبارها دولة سلام وتسعي من أجل التعايش السلمي بين الدول وتطبيق الشرعية الدولية وحرصها علي صورتها كان يفوق أحياناً حرصها علي مصالحها التجارية والاقتصادية. الدليل أن السياسة الصينية كان تروج لما عرف "بدبلوماسية الباندا" ذلك الحيوان الوديع الذي يرمز إلي التعايش والسلام مما يعني عدم ازعاج الخصوم فما بالك بعلاقاتها مع الحلفاء والأصدقاء. المهم أن سياستها كانت تسير تحت عناوين مثل "النمو السلمي" و"الانسجام الدولي" و"التناغم الدولي". السبب تحاشي دعاوي التخويف من نظرية "الخطر الصيني" التي رفعتها بعض القوي الإقليمية والغربية. المشكلة أن التنين معروف عنه انه ينفث النار ويثير الرعب والدمار أينما حل فكانت فرصة للخصوم للتخويف من نهضة الصين لاستخدامها في الماضي رمز "التنين". الغريب أن التنين رمز ثقافي وحضاري في التراث والوجدان الصيني لقرون ماضية. لكن في السنوات الأخيرة حاولت تحييده أو الغاءه من الذاكرة ولو حتي مؤقتاً وغاب اسمه ورسمه من أدبيات واحتفالات صينية مهمة. النتيجة أن العلاقات الاقتصادية أصبحت المحرك الرئيسي للرؤية الصينية وسلوكها مع العالم الخارجي وكان ميزان التبادل التجاري مع أي دولة هو المقياس الوحيد لمستوي تطور هذه العلاقات. الدليل أن بكين كانت إذا ما اضطرت تحت وطأة ظروف إقليمية أو دولية خانقة لتحديد موقف واضح من قضية ما. فكانت تدعو الأطراف المعنية بأي أزمة إلي الحوار والتفاوض دون الخوض في أية تفاصيل أو تقديم أي مبادرات. الرؤية الصينية ذات الأربع نقاط الجديد أن طرح الرئيس الصيني شي جين بينغ رؤية بلاده حول تسوية القضية الفلسطينية خلال مباحثاته مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس يوم 6 مايو الجاري مما يعني اتخاذ موقف واضح وصريح في منطقة شائكة تقع تحت النفوذ الأمريكي والغربي تاريخياً وسياسياً وجغرافياً. لخص الرئيس الصيني الرؤية الصينية في أربع النقاط: أولاً. التمسك بالاتجاه الصحيح المتمثل في إقامة دولة فلسطين مستقلة والتعايش السلمي بين دولتي فلسطين وإسرائيل. وأن إقامة دولة مستقلة ذات السيادة الكاملة علي أساس حدود عام 1967 وعاصمتها القدسالشرقية تعتبر حقاً غير قابل للتصرف للشعب الفلسطيني. ومفتاحاً لتسوية القضية الفلسطينية. وفي نفس الوقت. وحق البقاء لإسرائيل وهمومها الأمنية المعقولة يجب أن تكون موضع الاحترام الكافي. ثانياً. التمسك بالمفاوضات باعتبارها الطريق الوحيد الذي يؤدي إلي السلام الفلسطيني الإسرائيلي. ويجب علي الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي التكيف مع التيار العصري والمثابرة علي المضي في طريق مفاوضات السلام من خلال التفهم المتبادل وتبادل التنازلات لتقريب المسافة بينهما . وإن الأمر الأهم في الوقت الحاضر هو اتخاذ اجراءات ملموسة لوقف بناء المستوطنات ومنع أعمال العنف ضد المدنيين الأبرياء ورفع الحصار عن قطاع غزة ومعالجة قضية الأسري الفلسطينيين بشكل ملائم. وبما يهيئ ظروفاً لأزمة لاستئناف مفاوضات السلام. وإن تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة بين جميع الفصائل الفلسطينية أمر يساهم في استئناف وتدعيم مفاوضات السلام بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. ثالثاً. التمسك بثبات بمبدأ "الأرض مقابل السلام" وغيره من المبادئ. ويجب علي الأطراف المعنية أن تعمل علي دفع عجلة عملية السلام للشرق الأوسط إلي الأمام علي نحو شامل استناداً إلي المرجعيات القائمة المتمثلة في مبدأ "الأرض مقابل السلام" وقرارات الأممالمتحدة ذات الصلة و"مبادرة السلام العربية". رابعاً. أن يقدم المجتمع الدولي دعماً قوياً لدفع عملية السلام. مما يتعين علي الأطراف المعنية في المجتمع الدولي أن تشدد علي الشعور بالمسئولية وإلحاح القضية. وتتخذ موقفاً موضوعياً ومنصفاً وتعمل بنشاط علي النصح بالتصالح والحث علي التفاوض كما تسعي إلي زيادة المساعدات إلي الجانب الفلسطيني في مجالات تدريب الموارد البشرية والبناء الاقتصادي. وأشار سونج ايقوه سفير الصين لدي مصر إلي أن بلاده قامت خلال زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالتوقيع علي اتفاقية تعاون لمنح مساعدات لفلسطين في مجالات التعاون الاقتصادي والاتصال والتعليم وتنمية الموارد البشرية. ببساطة الصين تضع لأول مرة رؤية وخطة محددة لصياغة معادلة جديدة في علاقتها مع القوي الكبري. وتأسيساً لمرحلة مختلفة من السلوك السياسي والدبلوماسي. وبالطبع كان لابد أن يكون الشرق الأوسط بما يشكله من أهمية استراتيجية بالنسبة للقوي الكبري ومنها الصين هي المنطقة التي يبدأ منها التنين الصيني خطواته علي المسرح الدولي. الدليل استخدامها فيتو مزدوج حول سوريا لمرتين متتاليتين في مجلس الأمن اتبعتهما بمعارضة أخري في الجمعية العمومية. بوضوح لم تكتف بكين كعادتها بالامتناع عن التصويت؟ مما يعني خروجها عن صمتها المعهود وانضمامها إلي جانب روسيا. وكان هناك شبه إجماع لدي المراقبين بأن الصين لم تقم بذلك من أجل عيون النظام في سوريا حيث لا مصالح جوهرية لها هناك. خاصة أن السفير الصيني ايقوه قال "إن بلاده تدعم الحل السياسي بالنسب لهذه الأزمة وترحب بالتواصل الأخير بين روسيا والولايات المتحدة وتبادل الآراء بينهما لتحقيق هذا الهدف ونأمل أن يتم تنفيذ ماجاء في بيان اجتماع جنيف بشأن سوريا. وقال "نحن نتايع عن كثب آخر تطورات المسألة السورية ونعمل علي تقديم مساهمتنا من أجل هذا الحل السياسي".. وأوضح السفير الصيني انه بالنسبة لإسرائيل فإن زيارة نتنياهو هي الزيارة الخارجية الأولي خلال ولايته الثانية وهي أيضاً المرة الأولي التي تتواجد فيها قيادتان إسرائيلية وفلسطينية في نفس الفترة بعد عشرين عاماً من اتفاقية أوسلو عام 1974 وهي دليل علي العلاقات الطيبة بين كافة الأطراف واهتمامها بتطوير العلاقات مع الصين. وأشار إلي أنه قد تبادل الرئيس الصيني مع نتنياهو وجهات النظر تجاه هذه القضية لاتخاذ اجراءات ملموسة لتقريبها بين الجانبين. يبدو أن الصين قررت في بداية "عام التنين" إعادة الاعتبار لتنينها. فإنها لم تعد بحاجة إلي مسك العصا من منتصفها. ولم تعد تحرص كثيراً علي ارضاء الجميع وعدم اغضاب أحد. السبب أنه تم الاعتراف بها كقوة دولية ناهضة بعد أن فرضت نفسها كثاني قوة اقتصادية كبري واكتسبت الكثير من الثقة بالنفس وتغيرت مصالحها الاستراتيجية. وعلاقتها بالقوي الكبري. النتيجة أنها تعمل علي فرض تغير في سياساتها وفي سلوكها الدبلوماسي. وأصبحت علي أعتاب مرحلة جديدة من التحول الجيوسياسي والاستراتيجي ووضع قواعد جديدة في تعاملها مع القوي الكبري وإبراز حضورها علي المسرح الإقليمي والدولي.