استمعت إلي ما يثلج صدري ويرد الروح إلي نفسي في زمن قلق وريبة لا أكاد اسمع فيه ما يسر خطبة جمعة من أسابيع قليلة لم نسمع عنها مع أنها عنا ونحن في أشد الحاجة إليها بعد أن امتلأت منابر المساجد بدعاة أرهقوا المصلين يسمعونهم مضطرين أو يدعون ربهم في سرهم. أو يسرح بهم الخيال بعيدا عنهم لما تحتويه الخطب من دعاية تثير الجدل وتهددنا في الدنيا والآخرة فأصبحت المساجد مسرحا للمعارك يخرج منها رئيس الجمهورية علي عجل فلا يتمكن حراسه من لبس أحذيتهم ويحاصر فيها الشيخ "المحلاوي" حتي تأتيه النجدة ولا يخجل عالم مثل الشيخ القرضاوي من تحذير شعب مصر من فوق منبر المسجد في قطر حيث يعيش من يقطع معونة موجودة لو لم يسمع شعب مصر الكلام! الخطبة هذه المرة من مسجد "البواردي" الشهير في مدينة "الرياض" وصاحب الخطبة الشيخ "محمد بن عبدالرحمن العريفي" يتسابق المصلون للاستفادة بعلمه ألهمه الله ألا يدخل كلية الطب فيدرس علوم الشريعة فعلا صيته ولم يتجاوز الأربعين من عمره إلا بسنوات قليلة. أحببت أن أنشر بعض ما جاء علي لسان "العريفي" حتي تطمئن القلوب وكنت أتمني أن تستمعوا إلي خطبته: "فضائل مصر" كاملة بصوته. "أيها الإخوة المسلمون: انها اليوم شهادة في بلد الأنبياء رسالة إلي بلد العلم والجهاد.. أتحدث اليوم عن أم الدنيا مصر". "من شاهد الأرض وأقطارها والناس أنواعا وأجناسا ولا رأي مصر ولا أهلها. فما رأي الدنيا ولا الناس.. هي أم البلاد. أم المجاهدين والعباد.. قهرت قاهرتها الأمم ووصلت بركاتها إلي العرب والعجم.. هي بلاد كريمة التربة مؤنسة لذوي الغربة. إذا ذكرت المصريين ذكرت الكعبة والبيت الحرام فإن عمر رضي الله عنه أرسل إلي عامله في مصر أن يصنع كسوة للكعبة الشريفة فصنعت الكسوة من هناك سنة تلو سنة حتي مرت أكثر من ألف سنة. إذا ذكرت المصريين فقد كانت البعثة الطبية المصرية في الحج لسنوات طويلة هي أبرز ما ينفع الحجاج من كل أقطار الدنيا. إذا ذكرت المصريين ذكرت الدفاع عن فلسطين وذكرت الجهاد والمجاهدين. إذا ذكرت المصريين ذكرت أمنا "هاجر" و"مارية" القبطية ذكرت أخوال رسولنا وأصهار نبينا. ذكر الله تعالي مصر في القرآن صريحا في أربعة مواضع في كتابه تشريفا لها وتكريما.. وأشار إليها ولم يصرح باسمها في ثلاثين موضعا.. ولم يذكر الله تعالي قصة نهر في القرآن إلا نهر النيل. أيها المصريون: الإسلام فيكم وجد أعياده.. وكنتم يوم الفتح أجناده.. وكنتم عام "الرمادة" - عام الجفاف والجدب والمجاعة أيام عمر - مداده.. وأحرقتم العدوان الثلاثي وأسياده.. وحطمتم "خط بارليف" وعتاده.. وكنتم يوم العبور أسياده وقراره. ان في أرضكم الوادي المقدس طوي وفيها الجبل الذي كلم الله عليه موسي.. وفي أرضكم يجري نهر النيل المبارك الذي ينبع أصله من الجنة.. وفي أرض مصر الربوة التي أوي إليها عيسي عليه السلام وأمه.. وعلي أرضها ضرب موسي بعصاه فانفلق الحجر وانشق البحر. نعم انها مصر. إذا أردت القرآن وتجويده فالتفت إلي مصر.. وإذا أردت اللغة والفصاحة فإنك تنتهي إلي مصر.. وإذا أردت حلاوة التلاوة فالتفت لزاما إلي مصر. وعند المصريين جامع عمرو بن العاص أول جامع بني في إفريقيا وقد ضبط قبلته ثمانون صحابيا.. وجامع الأزهر الذي له فضل نشر العلوم في بلاد المسلمين. أما أهل مصر فيكفيهم شرفاً وفخراً أن الله تعالي اختار منهم الأنبياء وجعلهم يسكنونها: الخليل إبراهيم جد خاتم النبيين جاءها مع زوجه "سارة" وتزوج "هاجر" المصرية.. و"يعقوب" دخلها مع أبنائه الأنبياء فيها توفوا ودفنوا.. و"يوسف" سكن مصر وحكم فيها وتوفي ودفن في أرضها.. و"موسي" و"هارون" ولدا في مصر وعاشا فيها و"يوشع ابن نون" و"الخضر" و"أيوب" و"أشعيا" و"ارميا" كلهم دخلوا مصر ومنهم من مات فيها. ومن المصريين السحرة الذين ذكر الله تعالي قصتهم لما آمنوا وصدقوا.. كانوا أول النهار سحرة فجرة.. وصاروا في آخر النهار شهداء بررة. أما نساء مصر فيكفيهن فخرا سيد الأنبياء "محمد" كانت جدته "هاجر" مصرية ووالدة ابنه "مارية" مصرية.. ويكفيهن فخرا ان ماء "زمزم" تفجر اكراما لامرأة مصرية ولابنها عندما سعت بين الصفا والمروة.. وأن أم موسي عليه السلام مصرية.. و"آسيا" امرأة فرعون مصرية هي التي قالت: "ابني لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجنا من القوم الظالمين".. والمرأة الصافة التي كانت ماشطة لبنت فرعون كانت مصرية وقد قال نبينا عنها: "لما كان الليلة التي أسري بي فيها أتت عليه رائحة طيبة قلت: يا جبريل ما هذه الرائحة. قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها. عدد الصحابة الذين دخلوا مصر وسكنوا فيها وزاروها أو حكموها أو دفنوا في ترابها تعدوا أكثر من 350 صحابيا وفيها ولد خامس الخلفاء الراشدين "عمر بن عبدالعزيز". وإذا تكلمنا عن مصر فإننا نتكلم عن بلاد العلماء الذين وصل أثرهم إلي كل الدنيا. ولن ينسي التاريخ أبطال مصر الذين ردوا الحملة الصليبية وأخذوا قائدها ملك فرنسا أسيرا في دار ابن لقمان بمدينة المنصورة صبيح حارسا عليه فلما أطلق سراحه وحدثته نفسه أن يعود مرة أخري لغزو مصر كانت قصيدة: "وقل لهم إن اضمروا عودة لأخذ ثأر أو لقض صحيح.. دار ابن لقمان علي حالها والقيد باق والطواشي صبيح" ومن المصريين أبطال معركة "عين جالوت" وضباط وجنود شاركوا في حروب فلسطين. ما تكاد تجد إلي اليوم من المشايخ والعلماء إلا من قرأ علي مصري أو درسه في الجامعة مصري.. لهم فضل كبير علي العرب وعلي المسلمين في مساجدهم وجامعاتهم ومدارسهم ولهم من العلماء في الطب والذرة والهندسة والدعوة والأدب.. اللهم من أرادهم بسوء أو دبر لهم مكائد فرد كيده في نحره واجعل تدبيره تدميرا عليه يا قوي يا عزيز يا رب العالمين. روي فضيلة الشيخ السعودي "محمد العريفي" في خطبة الجمعة بمسجد "البواردي" في مدينة الرياض قصة الشيخ أحمد الدردير.. وكان عبدا عالما صالحا جلس في الأزهر يوما يعلم طلابه فلما دخل أحد الولاة وكان يريد أن يستميل المشايخ لبعض الفتاوي التي يريدها فقام الطلاب خائفين من كثرة الجند ومبجلين الموالي فأخذ الشيخ مصحفا ووضعه في حجره وجلس يتلو القرآن وقد مد رجليه فلما مر به الوالي قال: من هذا؟.. قالوا: هذا الشيخ "أحمد الدردير".. قال: فلماذا لم يقف لما رآني؟.. حاولوا أن يعتذروا له ولكن الوالي حنق عليه وعندما عاد إلي قصره أخذ "صرة" أرسلها مع أحد العبيد قال: اعطها ذلك الشيخ الذي كان مادا رجليه لما مررنا به.. فلما أقبل اليه ذلك العبد وناوله "الصرة" علم الشيخ أن الوالي أراد أن يذله بقبول المال فنظر إلي الرجل وقال: ارجع إلي من أرسلك وقل له: "أن الذي يمد رجليه لا يمد يديه"!!