أكد خبراء وقانونيون أن تكليف حكومة الانقلاب لعدد من وزرائها بإعداد مشروع قانون لحماية وتحصين تصرفات كبار المسئولين بالدولة "حسنة النية" تعكس قلقا متصاعدا داخل معسكر الانقلابيين الدمويين من أى عقاب متوقع أو مساءلة محتملة لأنهم فاقدون للشرعية، مشيرين إلى أن طلب التحصينات أصبح يشكل ظاهرة لدى قادة الانقلاب لأنهم خائفون من الحساب والعقاب الذى سيطالهم عقب كسر الانقلاب واستعادة الشعب المصرى لشرعيته وحريته. وشدد الخبراء -فى تصريحاتهم ل"الحرية والعدالة"- على أن هذا القانون فى حال إقراره فإنه سيكون غير دستورى وباطلا ويكرس دولة اللاقانون؛ لأن القانون لا يجود به استثناء، والنية يحددها القاضى، أما هذا القانون إن أقر فسيفتح الباب واسعا لانتشار منظومة الفساد وإهدار المال العام وضياع حق الدولة والمجتمع لأن كل المسئولين سيكونون فى مأمن من أى مساءلة أو محاسبة، مما يؤدى لهروب الاستثمارات ويستفيد منه من يرتبط مع السلطة بشبكات مصالح. وأشاروا إلى أن مصر تعيش حاليًا فترة تدنى على جميع المستويات داخليًا وخارجيًا وفى كل المجالات سياسيًا واقتصاديًا واجتماعًا، وأن من يدير البلاد هى حكومة انقلابية مهترئة ومهتزة لا تملك اتخاذ قرارات صحيحة لذلك فمسئولوها يحتاجون إلى تأمين أنفسهم بهذا القانون وهذا أمر خطير لأنه لا يجوز تحصين أى شخص مهما كان منصبه أو مكانته فكل من يخطئ عليه أن يتحمل عواقب خطئه والعقاب الذى سيوقع عليه. وكان مجلس وزراء الانقلاب الدموى برئاسة حازم الببلاوى قد عقد اجتماعا فى السادس من نوفمبر الجارى وفيه كلف المجلس غير الشرعى، وزراء العدل والاستثمار والعدالة الانتقالية، بحكومة الانقلاب بإعداد مشروع قانون لحماية تصرفات كبار المسسولين بالدولة التى تتم بحسن نية ودون قصد جنائى، وفى أعقاب الانتقادات الواسعة للمشروع زعمت حكومة الانقلاب أن التشريع الجارى إعداده هدفه إزالة الخوف والقلق فى اتخاذ القرار وتشجيع مناخ الاستثمار، على حد زعمهم. غير دستورى فى البداية، يرى خالد حنفى -المحامى وعضو مركز القاهرة للدراسات القانونية والسياسية- أنه من الناحية القانونية الأصل فى دولة القانون هو مبدأ المشروعية وهو أهم مبادئ النظام العام، وقاعدة قانونية، فلا يجوز الخروج عن المشروعية القانونية والخروج عنها هو إهدار للنظام العام، محذرا من أن مشروع القانون الجارى إعداده لتحصين تصرفات وقرارات كبار المسئولين بالدولة ليس مشروع قانون وفقا للقواعد الدستورية والقانونية الحاكمة للدولة، أى أن مشروع القانون ليس له مشروعية. وقال حنفى إن مبدأ المشروعية والنظام العام يقول إن من يرتكب جريمة يحاكم عليها ولا يحصن المواطن من أى تصرف ينص فى القانون عليه كفعل مجرم، ووفقا لمبدأ المشروعية فى الدستور المصرى لا يجوز استثناء مواطن حين يصدر منه فعل مجرم بنصوص قانون العقوبات وإلا يعد ذلك إهدارا لدولة القانون. وأوضح أن أى شخص صدر منه فعل سواء بحسن نية أو سوء نية فإن ذلك أمر يحدده القاضى والمحكمة سواء صدر عنه فعل أو قرار أو أضرار؛ فالقاضى هو من يقرر ويوصف الفعل وفقا للتحقيقات والنيابة والإجراءات المتبعة فى التقاضى، فكل قرار أيا كانت طبيعته لأى مسئول أيّا كان كبيرا أو صغيرا حتى رئيس الدولة نفسه يخضع لرقابة القاضى والقانون، والقاضى عليه أن يحدد هل كان فعله بحسن أو سوء النية ويتحمل الشخص التبعات القانونية لأفعاله. وأضاف عضو مركز القاهرة للدراسات القانونية، أنه وفقا للقانون الدولى والقانون المحلى المصرى لا يجوز استثناء مسئول حتى بإصدار هذا القانون الجديد فى غيبة الرقابة الدستورية على القوانين التى تصدر فى هذه الفترة، وحتى بحالة صدور قانون "تحصين كبار المسئولين" فإنه قانون غير دستورى ولا يجوز ولا يمكن تطبيقه لأنه يخل بمبدأ المشروعية القانونية، وقانونا لا يجوز صدوره، وحتى لو صدر فى غياب الرقابة الدستورية والتشريعية بالدولة فهو باطل. وأشار إلى أنه يجب محاسبة المسئول مثل أى شخص، موضحا أن قرار الشخص وتحصينه يعنى إهدار حقوق جميع الأطراف الأخرى سواء كان حق المجتمع والدولة والمال العام وحقوق الأفراد الآخرين المتضررين منه، فمثلا إذا صدر قرار من مسئول بهدم عقار ووقع بسببه ضرر، فكيف يثبت القاضى أنه هدمه بحسن نية، لا يوجد شىء اسمه هدم أو إهدار مال عام أو مستحقات بزعم أنها تمت بحسن نية، وما يوصف ب"حسن النية" يحرم المتضررين من التعويض. وتساءل حنفى: كيف يستثنى وزير أو رئيس وزراء تسبب فى أضرار للدولة أو المجتمع أو لأشخاص، فهؤلاء لهم حق التعويض فكيف نهدر هذه الحقوق أو نمنعها بقرار أو بقانون، ولو تم القانون بصدوره فإنه فى ظل غياب من يراقب القرارات دستوريا يعد باطلا بطلانا مطلقا وما ينتج عنه. تداعيات خطيرة دوليا ومحليا وكشف خالد حنفى أن هذا القانون إن صدر سوف يهدر الدولة القانونية التى ترتكز عليها مصر فى تعاملاتها محليا ودوليا، ولو أصبحت مصر بفترة ما دولة لا قانونية فلن تحترم كدولة لا محليا ولا دوليا، فهل ستقول الدولة حين تطالب بدفع تعويضات أو ضرائب بأنها كانت بقراراتها تفترض حسن النية؟، فكل القرارات تتخذ من قبل المسئولين بناء على قوانين، ومن ثم لا يجوز حمايتهم وتحصينهم؟ مشيرا إلى أن تحصين المسئولين يعنى العجز عن مساءلتهم تماما ولن يؤخذ منهم "لا حق ولا باطل" بجميع القطاعات والقضايا سواء التجارة أو الأمن والحريات العامة أو إهدار المال العام أو أمن المتظاهرين، فحق المتضرر من المسئول سيضيع أيا كان طبيعة الضرر مادى ونفسى واقتصادى. وأضاف أن العالم سيخشى من التعامل مع مصر خارجيا لأن هذا المشروع بالتحصين إن أقر من السلطة القائمة فسيصبغ مصر بصبغة الدولة اللاقانونية، مما يترتب عليه إهدار حقوق المواطنين أو الدول الخارجية، والمواطن لن يطمئن على نفسه فكيف بالأجنبى، مما يؤثر بالسلب على تدفق الاستثمارات والسياحة لمصر لأنه سيجد نفسه غير قادر على نيل حقه أو أخذ تعويض ضد المسئول عن الفعل مما يجلب تداعيات خطيرة وواسعة. وحذر عضو مركز القاهرة للدراسات القانونية والسياسية، من تطبيق اللاقانون على مؤسسات الدولة خاصة فى ظل تعطيل دستور 2012 الذى أقره الشعب بأغلبية الثلثين؛ فالعالم يرى فى ذلك إهدار لكيان الدولة المؤسسى، وما تأصل فى مصر بكونها دولة مؤسسات وقانون. ويقول: أما قانون "تحصين الوزراء" إن صدر يترتب عليه مخاطر شديدة على علاقات مصر الاقتصادية بالخارج تعود علينا بأضرار بالغة الخطورة سواء على الدولة أو المواطن أو من يتعامل معها من الخارج شركات أو أفراد، لافتا إلى أنه إذا أصدر مسئول قرار بحق شركات أجنبية، أو مساهمة أو عابرة للقارات، ستشك الشركة وصاحبها فى مدى قدرتهم على نيل حقوقهم فى ظل هذا التحصين تجاه الحكومة وممثليها ومسئوليها ومدى قدرتها على نيل حقوقها إذا صدرت أحكام ضد الدولة. ونبه حنفى، إلى أن هذا القانون باطل وصدوره إن صدر لا يعنى صحته لأنه صدر بفترة تاريخية لا يوجد فيها قيادة حاكمة منتخبة من الشعب، ولذلك هناك قرارات وقوانين تصدر دون رقيب دستورى حقيقى ودون برلمان منتخب يراقبها ويمنع صدورها، وإلا لما وجدنا من يطالب بمناقشة وإعداد مثل هذا المشروع المقترح لمجلس الوزراء. فوضى وفساد وحول آثار مشروع قانون تحصين تصرفات وقرارات كبار المسئولين من الناحية الاقتصادية على البلاد، يرى الدكتور يوسف إبراهيم -أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر- أن مشروع قانون حماية تصرفات كبار المسئولين بالدولة يحمل مخاطر عديدة وله تداعيات وآثار خطيرة للغاية؛ لأنه يفتح الأبواب لتصرفات وقرارات غير مدقق بها، ويصبح المسئول بدلا من أن يبنى قراراته بناء على تفكير معمق للمشروعات مبنية على حسابات علمية مدققة للمخاطر وللإيجابيات والسلبيات واختيار الأفضل من بين البدائل للوصول لقرار سليم يفيد الدولة والمجتمع، فإن هذا القانون سيجعل المسئول يصدر قراره دون التثبت منه هل هو صواب أم خطأ، لأنه أصبح محمى ومحصن من المساءلة والمحاسبة مما سيؤدى لفوضى كبيرة فى إدارة الدولة. وحذر إبراهيم، من أن المؤسسات الاقتصادية ستمتلئ بالفساد، ولن تكون هناك قيمة لدراسات الجدوى الخاصة بالمشروعات وسيحدث تسيب فى التعامل مع المال العام، وانتشار الفساد، لأنه لن يوجد شخص مسئول سيحاسب على أى شىء. وأشار إلى أن مسألة حسن النية وسوء النية من الصعب إثباتها، فكل مسئول يتصرف كما يحلو له و"على كيفه" ثم حين يسأل أو يحاسب يقول كان عندى حسن نية، بينما أى تصرف يجب أن ينبنى على قرائن وأدلة تحدد مسئوليات وحسن النوايا، وليس حسن النية فقط بل قرائن معها تثبت اتخاذ القرار بحسن نية، والقرائن هى الفيصل وليس النية بذاتها، أما أن يصدر قانون يحصن اتخاذ القرارات للمسئولين الكبار لأنها تمت بحسن نية أمر مرفوض، ولا أصل له من علم ولا حكمة. وشدد أستاذ الاقتصاد، على أنه فى ظل هذا القانون -إن أقر من قبل حكومة الانقلاب الدموى- لن يكون هناك مال عام مصون، وسيكون عرضة للسرقات والتوزيع على المحاسيب وفى النهاية يقال إنه أهدر بحسن نية، واصفا الأمر برمته بأنه شىء لا يعقل ويكشف نوعا من التسيب الموجود بالدولة الآن تحت حكم الانقلابيين. وأضاف: نحن نعيش فترة تدنى وحكومة انقلابية مهترئة ومهتزة لا تملك اتخاذ قرار صحيح لذلك تحتاج تأمين نفسها بهذا القانون وهذا أمر خطير، فكل من يخطئ عليه أن يتحمل عواقب خطئه. وأوضح إبراهيم أن هذا القانون سينتفع منه بعض مستثمرين بالداخل لأنه يفتح لهم الباب على بناء مصالح وشبكات فساد فى ظل علمهم أنه لا محاسبة على قرار وأن المسئول بمأمن من العقاب مما يشجع على سوء تصرف المسئول العام تجاه المال العام. قلق ورعب الانقلابيين وحول تحليل مشروع القانون من الناحية السياسية وتصاعد فكرة التحصين لدى سلطة الانقلاب يرى أحمد خلف -الباحث بمركز الحضارة للدراسات السياسية- أن ظاهرة التحصين لا بد وأن تتفشى فى البيئة الفاسدة، التى يريد أعضاؤها أن يكونوا فى معزل عن محاسبة مستقبلية أو عقاب متوقع، وهذا الشعور ناتج عن قلق وتوتر بسبب عدم استتباب الأوضاع لسلطة الانقلاب، ودليل على حالة القلق، ليس من سقوط الانقلاب وحسب، بل من خيانة متوقعة بين أركان سلطة الانقلاب ذاتها، فكل الأطراف داخل تحالف الانقلاب غير المتجانس يتشكك فى شريكه، ويتوقع أنه قد يمكر به وينقلب عليه فى أى لحظة، وقد شاهدنا خروج محمد البرادعى من المشهد بمصاحبة حملة تخوين غريبة ومبالغ فيها بشكل ساذج، كما نشاهد يوميا مظاهر لصراع محتدم بين أجهزة الانقلاب وتياراته، سواء فى الحكومة أو الجيش أو الداخلية أو الأحزاب والتيارات السياسية أو رجال الأعمال.. إلخ على شاشات الانقلاب. وأضاف أن كل طرف يتشكك فى كل شىء ويدرك أن الثمن الذى قد يضطر لدفعه قد يكون فادحا؛ لذا يبادرون بطلب تحصين أنفسهم، وتحصين أكبر عدد ممكن من الشركاء الذين يظنون أنه يمكنهم أن يساهموا فى حماية بعضهم بعضا. وتساءل خلف: كيف لا يطلبون حصانة لأنفسهم من العقاب وقد طلبها كبيرهم قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسى، مما كشفت عنه تسريباته المذاعة مؤخرا، وهو يطلب لنفسه الحصانة وللمؤسسة العسكرية ومن قبل ذلك أصدر الانقلابى عدلى منصور قرارا جمهوريا بتعديل بعض أحكام قانون المناقصات والمزايدات، ليسمح بالتعاقد عن طريق الاتفاق المباشر بناء على ترخيص من الوزير أو المسئول المختص، فهذه منظومة فساد وإذا كان الرأس الكبير يطلب تحصينا ومعاملة خاصة ومنعا للرقابة على أعمالها، فلا يمكن أن ننتظر ممن يلونهم فى السلم الوظيفى والسياسى سوى القيام بالأمر ذاته، وإذا شعر أى مسئول أو أدركت أية هيئة أنها معرضة فى قابل الأيام لأى مساءلة أو عقاب، فإنها ستقوم بطلب تحصين نفسها سواء كان ذلك فى مجال الاقتصاد أو الإدارة أو السياسة أو حتى فى الجرائم الجنائية التى ارتكبت من قبل أجهزة سلطة الانقلاب. وأوضح الباحث بمركز الحضارة للدراسات السياسية، أنه من المهم الإشارة إلى أن ما تدعيه حكومة الانقلاب الدموى من تبريرات لهذا التحصين إنما هو محض عبث وافتراء؛ لأن الأيدى المرتعشة أو بطء القرارات لا يتأتى إلا من سلطة فاقدة للشرعية لا تهتم بمصالح الشعب ولا حقوق المواطنين، ولذا لا تجد هذه الحكومة حريصة على التواصل مع المواطنين؛ لأنها ببساطة لا تمثلهم ولم ينتخبوها ولم يدعموها ولا هى معنية بهم ولا هم معنيون بها، فلذلك تتخذ قراراتها ببطء لأنه من وجهة نظرها ما وجه الاستعجال. وأشار إلى أن المسئول إذا فسد انتقل فساده إلى من دونه فى المسئولية، وهذا ما قد يفسر عددا من الأزمات التى بدت تطفو على السطح مثل أزمة أنابيب البوتاجاز التى كانت قد اختفت فى الأشهر الأخيرة من السنة الأولى لحكم الرئيس الشرعى الدكتور محمد مرسى، باجتهاد الوزير الدكتور باسم عودة وزير التموين فى حكومة د. هشام قنديل، وقد عادت للظهور مرة أخرى بسبب عودة انتشار الفساد بمواقع المسئولية ومن ثم توقف سلطة الانقلاب عن محاربة الفساد. أما عن دلالة التوقيت، فيرى خلف، أن هذا هو التوقيت الأكثر ملاءمة -فى تقديرهم- لمثل هذا المسعى؛ لأنه يصاحب طلب عبد الفتاح السيسى تحصين نفسه وتحصين المؤسسة العسكرية، وكذا خلو الدولة من برلمان يشرع أو يراقب، أو دستور نافذ، فهذه كلها عوامل تساعد على طلب التحصين من العقاب مقايضة لقائد الانقلاب للاستمرار معه ومساعدته فى مسيرته الانقلابية، ولأن البيئة السياسية والقانونية مهيأة لمثل هذا النوع من الفساد فى مثل هذه الفترات القلقة، مشيرًا إلى أن الشاهد من كل ما سبق بيانه أن سلطة الانقلاب لا تعتنى سوى بنفسها، وأن المواطن فى الدرك الأسفل من اهتماماتها إلا فيما يتعلق ببقائها مسيطرة عليه.