فى اليوم العاشر من المحرم كان إنجاء الله لموسى عليه السلام الداعى إلى الله وأحد أولى العزم من الرسل وهلاك فرعون أكبر الطغاة والذى أفسد الحياة والذى ظلم عباد الله، ذهب ومن معه غرقًا. وأبقى الله بدنه فقط ليعتبر من خلفه (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) (يونس: 92) كيف؟ أسرى موسى بقومه من بنى إسرائيل ليلًا هربًا وفرارًا من بطش فرعون وتنكيله حتى وصل البحر، فأتبعهم فرعونُ بجنوده بغيًا وعدوًا، فكان البحر من أمامهم والعدوُّ العرمرم من خلفهم، حتى أوشك اللحاق بهم والقضاء عليهم، حتى ظنَّ أصحابُه أنهم لمُدركون، لكنَّ استشعارَ المعية الإلهية والثقة العالية (كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء: 62)، فأوحى الله إليه أن يضرب بعصاه البحر فانفلق حتى جمد الماء واتخذ موسى من البحر طريقًا يبسًا، سار عليه هو وقومه فنجوا جميعا. ثم استعرض فرعون البحر بجيشه الجرَّار العتيد، حتى إذا جاوزه موسى وقومه، وأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر ثانية حتى يذهب يبسه لكن الله نصحه (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ) وكانت إرادة الله أفضل بكثير من إرادة موسى عليه السلام؛ حيث أراد موسى أن يفصل البحر بينهما فقط، وأراد الله أن يغرق فرعون ومن معه فيخلص البلاد من فساده وينجى العباد من عناده واستبداده، وإذا فرعون وسط البحر وغرق هو وجنوده، الماء الذى نجى الله به موسى أغرق به فرعون، إنما نجَّاه الله ببدنه فقط ليكون عبرةً لمن يعتبر وذكرى لمن يتذكر وعظة لمن يتعظ بها كل جبار عنيد متكبِّر فى الأرض. واتخذ اليهودُ هذا اليوم (العاشر من المحرم عيدًا) تعبيرًا عن فرحتهم بنجاتهم من فرعون وبطشه، وتخلصهم من ظلمه وفساده، وذلك بصيامهم هذا اليوم يوم عاشوراء، وكان من هدْى النبى محمد -صلى الله عليه وسلم- أن أمر المسلمين بصيامه "نحن أولى بموسى منهم"، وتمييزًا للأمة الإسلامية كان من هدى النبى أن يُصام يومٌ قبله أو بعده. وفى عهد النبوة المحمدية، لما رأت قريش أمر رسول الله -أعظم الدعاة إلى الله- يعلو، وصِيته صلى الله عليه وسلم يتصاعد أجمعوا على أن يتعاقدوا على بنى هاشم، وبنى عبد المطلب، وبنى عبد مناف، أن لا يبايعوهم ولا يناكحوهم، ولا يكالموهم، ولا يجالسوهم حتى يسلموا إليهم محمدا، وكتبوا بذلك الصحيفة وعلقوها فى سقف الكعبة. طغيان غائر وعصيان غادر وحصار سافر.. حُبس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فى الشعب -شعب أبى طالب- ليلة هلال محرم سنة سبع من البعثة، وبقوا محبوسين، مضيقا عليهم جدا، مقطوعا عنهم المؤنة نحو ثلاث سنوات، حتى بلغوا الجهد حتى أكلوا أوراق الشجر وسمع أصوات بكاء صبيانهم من وراء الشعب. وعمل أبو طالب قصيدته اللامية المشهورة، لكن فرج الله كان قريبا وأمر الله كان عجيبا؛ حيث أرسل الله سبحانه وتعالى الأرضة على الصحيفة، فأكلت جميع ما فيها من جور، وقطيعة، وظلم، إلا ذكر الله عز وجل لم تمسه، وانتهى الحصار بعد أن ظهرت آية الله وتدخل أصحاب المروءة والنخوة من قريش حتى ولو لم يكونوا مسلمين، فكوا هذا الحصار -حدث ذلك فى المحرم- وازدهرت بعدها دولة الإسلام وملكت الشرق والغرب بفضل الله تعالى، فهل من مروءة ونخوة بقيت مع مسلمى اليوم لينصروا المظلومين ويجبروا المستضعفين؟!! الفراعنة المستبدون -إذن- بالطغيان يتسلحون وبالاستبداد يمنحون الأذون؟ (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى) (طه: 71). لكن هل قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف؟ هل صلبهم فى جذوع النخل؟ هل بقى هو ومن معه؟!! كلا وإنما ذهب مع حاشيته ملعونا فى دنياه مقبوحا فى أخراه مطرودا من رحمة الله (وَأَتْبَعْنَاهُم فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ) (القصص: 42). أما الدعاة إلى الله فيتسلحون بالصبر والإيمان، والإيمان إلى بقاء وأصحابه دائما فى نعماء كيف؟ سحرة فرعون حولهم الإيمان من عبيد له إلى أسياد يتحدونه قائلين (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه: 72-73) ونحن نتعبد بموقفهم فى القرآن تلاوة وترتيلا، عزا ونصرا، حياة وثباتا، حفظا ونجاة..!! شهر المحرم يأتينا ليعلمنا أن أصحاب الحق أسياد بحقهم وسينتصرون بإذن الله على عدوهم، أما أهل الباطل فهم عبيد لباطلهم سيزهقون مع باطلهم ويهزمون مع عنادهم ويولون الدبر.. (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا).. الطغاة إلى زوال والدعاة إلى الله -فى كل الأحوال- إلى نعيم لا ينفد وجنان لا تنتهى وفضل من الله لا يحول ولا يزول.