كان وقع المشهد رهيبا على تلميذات في سن الزهور وهو يرون أناسا بزي عسكري ومعهم آخرون بزي بوليسي وفريق ثالث يقوم بتفتيشهم وهم يبدؤون عامهن الدراسي الجديد. في مدرسة "الفيوتشر الثانوية" (اسم مستعار) وفي افتتاح العام الدراسي الجديد، وبينما الجميع يلقي الكلمات والتهاني، قامت سارة التلميذة بالصف الأول الثانوي برفع يدها مشيرة بعلامة رابعة، لمحت مديرة المدرسة يد التلميذة، فنظرت إليها نظرة قاسية لا تليق بمربية، لم تعرها التلميذة بالا ولا اهتماما. تلفتت المديرة لتنظر في وجوه المسئولين الذين جاءوا لحضور افتتاح العام الدراسي، وتساءلت في نفسها: هل رأوا ما رأيت أم لا؟ وتمنت على الله في سرها ألا تكون عين أحدهم قد وقعت على يد الطالبة. انتبهت المديرة وفاقت من تفكيرها لتجد أن كل البنات قد رفعن أيديهن بإشارة رابعة، لم تتحمل المشهد فنظرت إليهم وأشارت بخفض أيديهن احتراما لرجال الجيش والشرطة الذين جاءوا كما قالت في افتتاح الطابور لحمايتنا من الإرهاب. لم تمض سوى ثوان قليلة، وبدلا من التجاوب مع طلب المديرة خصوصا في ظل وجود الجيش والشرطة والسلاح الميري، وإذا بالمدرسة تهتز على صوت التلميذات وهن يرددن: الانقلاب هو الإرهاب .. الانقلاب هو الإرهاب. أمسكت المديرة بميكروفون الإذاعة، وأعلنت وبكل وضوح براءتها من أية تلميذة ترفع شعار رابعة أو تهتف ضد ثورة يونيو العظيمة! استمرت التلميذات في ترديد الشعار غير عابئات بكلام المديرة. شعر العسكر والشرطة الموجودون بالمدرسة بالحرج، فقرروا الخروج، لكن وقبل أن يفعلوا طلب أحدهم وهو على ما يبدو قائد المجموعة الميكروفون ليلقي كلمة قال فيها: "إحنا جينا هنا عشان نحميكم من الإر..." لم يكمل الكلمة وفوجئ بالتلميذات يهتفن من جديد: "الانقلاب هو الإرهاب". أصر على أن يكمل كلمته، فقال: "أنا ماليش دعوة بالانقلاب، أنا ضابط في الجيش المصري أؤدي وظيفتي لحماية الوطن"، ردت عليه تلميذة في الصف الأول الثانوي قائلة: "يا عمو دي مدرسة مش معسكر، ولو حضرتك بتمارس دورك من فضلك ارجع للمعسكر أو الكتيبة اللي انت بتشتغل فيها..."، قاطعتها المديرة: "بس يا بنت خليكي مؤدبة"، استمرت التلميذة في كلامها موجهة حديثها للجميع: "يسقط يسقط حكم العسكر ، مصر بلدنا مش معسكر"، اهتزت جدران المدرسة مرة ثانية بالهتاف المدوي. أدرك الجميع أنه لا حل سوى الخروج وبسرعة، فقد تجمع الأهالي خارج أسوار المدرسة وبدؤوا يهتفون مع هتافات التلميذات داخل أسوار المدرسة. شعر رجل الشرطة المصاحب للمجموعة أن خروجهم من المدرسة المحاصرة أمر صعب، فقام بإطلاق أعيرة نارية في الهواء حتى يفرق الأهالي، وبالفعل نجح في ذلك وخرجوا جميعا وسط هتافات تطالب العسكر بالرحيل. وبينما خرج الوفد العسكري الأمني من المدرسة بعد أن طاردته الأهالي، كانت مديرة المدرسة تتهدد وتتوعد الجميع بأنه لو تم نقلها فسوف تقوم بفصل جميع الطالبات على سوء أدبهن وعدم تربيتهن، وغاصت المديرة في وحل كلمات لا تليق أبدا بها، ولكن يبدو أنها تعرضت لضغوط أمنية هائلة، مما أفقدها توازنها وأعصابها. على يمين المديرة كانت تقف الأستاذة منيرة، وهي سيدة في منتصف الأربعين من عمرها، ترتدي ملابس عادية محتشمة وليست محجبة، لم يرق لها المشهد برمته، واعترضت على أسلوب المديرة وأسلوب النظام في التعامل مع يوم ينتظره الجميع بالفرح بمثل هذه المظاهرة الأمنية. انتهى الطابور بالسلام الوطني، صعدت التلميذات إلى الفصول، طلبت المديرة من الجميع انتظارها في غرفة الاجتماعات للضرورة، فطنت المديرة إلى أن عددا غير يسير من المدرسات غير راضيات عما جرى من تدخل عسكري في العملية التربوية. بدأت المديرة حديثها بأن أوضاع البلد لا تحتمل، وأن الإخوان يريدون أن يشعلوها حربا على الوطن، قاطعتها الأستاذة منيرة قائلة: "يا ست المديرة ما ينفعش الكلام البكش ده هنا، الكلام دا يتقال في الإعلام عشان يضحكوا بيه على الناس، إنما احنا شايفين البنات وعارفين مين همه وولاد مين، وانت عارفة يا ست الناظرة أن مدرستنا مصاريفها عالية قوي، وما بيدخلهاش إلا المقتدرين، وبعدين البنات زي ما كلنا عارفين نصفهم أو أكثر مش محجبات، وكمان انت عارفة إني مسيحية ومش على الملة يعني خلينا نحترم ذاتنا عشان ولادنا يحترمونا". بهتت المديرة وحملقت عيناها في منيرة التي لم تكن تنطق ولم تكن تجرؤ أن ترفع صوتها في يوم من الأيام، ثم انتفضت المديرة في وجه الجميع وهي تكاد تبكي: "أنا ماليش ذنب.. أنا امبارح بالليل واخدة دش من واحد اتصل بيا وقال لي: إذا كنت عايزة تكملي في سلك التعليم اسمعي للي ح أقوله لك ونفذيه، انت ست كبيرة ومش حمل بهدلة.." فرت الدموع من عيون المديرة، ساد الصمت في غرفة الاجتماعات، بكت بعض المدرسات وقمن باحتضان المديرة للتخفيف عنها، مسحت دموعها وقالت: "انتم مش عارفين حاجة، أنا جوزي كان ضابط في الجيش وأنهوا خدمته عشان مرضيش يوافق على الكلام اللي بيحصل ده، ويا عالم ح يسيبوه يعيش وللا ح يخلصوا عليه" بكت ثانية وانفجر الجميع بالبكاء. انتبه الجميع على سماع طرقات الباب، قالت المديرة: "ادخل"، وإذا بالجميع يفاجأ ب"سارة" تدخل إلى الغرفة لتقول للناظرة "إنها هي المسئولة الوحيدة عما جرى، ولو فيه حد ح يتحاسب يكون أنا يا أبلة"،لم تكمل عبارتها وإذا بطابور طويل من التلميذات يقفن أمام الغرفة، قالت المديرة لهن باستغراب: "عايزين إيه تاني يا وحشين؟". في نَفَس واحد تقريبا قالت التلميذات: "عايزين نقول لك إن احنا ما قلدناش سارة ولا حاجة"، إحنا كلنا رابعة يا أبلة.