تحرص الحكومات الأمريكية دومًا على الظهور الدولي “كأنّ على رأسها ريشه”، وأنها استثناء من تطبيق أي اتفاقية أو عقوبة دولية ضدها، لانتهاكها العدالة أو الحريات أو ارتكاب قواتها جرائم حرب كما حدث في العراق وأفغانستان وفيتنام، لهذا عندما تخسر قضية دولية أو تكاد تتجه للانسحاب من الاتفاقية الدولية التي عوقبت بموجب بنودها، ما يهدد نظام العدالة العالمي ويهدد النظام الدولي نفسه. وبالتزامن مع النقاش الأخير داخل اجتماعات الدورة ال73 للأمم المتحدة حول ضرورة إصلاح المنظمة الدولية، خاصة توسيع عضوية مجلس الأمن بحيث لا يبقى حكرًا على دول الفيتو الخمسة، ووضع واشنطن العقبات في وجه هذه الإصلاحات، رفضت الإدارة الأمريكية أن تطبق عليها قرارات محكمة العدل الدولية واتفاقية فيينا لعام 1961، التي تتضرر فيها إيرانوفلسطين من السياسات الأمريكية، وأعلنت عن انسحابها من الاتفاقيتين الدوليتين. ورفعت فلسطين بشكل رسمي دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية ضد الولاياتالمتحدة، بخصوص نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس 14 مايو 2018، وجاء في بيان صادر عن محكمة العدل الدولية أن الجانب الفلسطيني يعتبر القرار الأمريكي “انتهاكا لاتفاقية فيينا لعام 1961”. أيضًا رفعت إيران دعوى على أمريكا أمام محكمة العدل الدولية تشكو من العقوبات الأمريكية ضدها، فأهدت المحكمة نصرا لإيران عندما ألزمت الولاياتالمتحدة بضمان ألا تؤثر العقوبات الأمريكية المقرر تشديدها، في شهر نوفمبر المقبل، على المساعدات الإنسانية أو سلامة الطيران المدني بإيران، فردت واشنطن بالانسحاب من اتفاقية محكمة العدل الدولية!. بل إنه عندما اشتكت طهران من أن العقوبات الأمريكية التي تفرضها الإدارة الأمريكية منذ مايو الماضي، تنتهك بنود معاهدة الصداقة الموقعة عام 1955، ردت واشنطن بالانسحاب من هذه المعاهدة أيضا، لتنسحب خلال أيام من 3 معاهدات. وندد مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون بمحكمة العدل الدولية، واصفا إياها بأنها “مسيسة وغير فعالة”، وأعلن عن أن واشنطن ستراجع كافة الاتفاقيات الدولية التي قد تعرضها لقرارات ملزمة من جانب محكمة العدل، رغم أن أمريكا سعت في الماضي للاستفادة من هذه المحكمة الدولية ضد خصومها. واشنطن لا تأتمر بأوامر العالم! كانت محكمة العدل الدولية قد قالت، الجمعة الماضية 28 سبتمبر 2018، إنها تلقت شكوى من دولة فلسطين ضد الولاياتالمتحدة تقول إن وضع الحكومة الأمريكية سفارتها لدى إسرائيل بالقدس ينتهك اتفاقية دولية وينبغي نقلها، مشيرة بذلك إلى أن دعوى فلسطينية تطالب المحكمة بإصدار أمرٍ للولايات المتحدة بسحب بعثتها الدبلوماسية من مدينة القدس، وعودتها مرة أخرى إلى مدينة تل أبيب. واستندت دولة فلسطين في شكواها لمحكمة العدل الدولية إلى اتفاقية فيينا عام 1961، والتي تحدد أطر العلاقات الدبلوماسية بين الدول المستقلة، والتي ترى السلطة الفلسطينية أن الولاياتالمتحدة انتهكت بعض بنودها باعترافها بالقدس عاصمةً لإسرائيل. وتلزم الاتفاقية أي دولة بوضع سفارتها على “أرض دولةٍ مستضيفةٍ”، لكن الوضع الحالي لمدينة القدس هو أنها تخضع لسيطرة إسرائيلية، وهذه السيطرة عسكرية، وليست لدولة الاحتلال هناك سيادة حقيقية معترف بها دوليًا. لذلك قال جون بولتون، مستشار الأمن القومي: إن الولاياتالمتحدة ستنسحب من (البروتوكول الاختياري) بشأن حل النزاعات والملحق بمعاهدة فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961، وأضاف: “سنجري مراجعة لكافة الاتفاقيات الدولية التي ربما تعرض الولاياتالمتحدة لولاية قضائية مزعومة ملزمة وحل النزاعات بمحكمة العدل الدولية”، أي أعلن رفض أمريكا قبول محاكمتها دوليا في أي قضية، وأن “على رأسها ريشة”، لهذا وصف وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الانسحاب الأمريكي بأنه دليل على أن أمريكا “نظام خارج على القانون”. وقال بولتون بوضوح: إن أمريكا ترفض الولاية القضائية لمحكمة العدل الدولية. وحين فتح عددٌ من دول العالم سفاراتها لدى إسرائيل في القدسالمحتلة في الماضي، طالبت الأممالمتحدة بلدان العالم بنقل سفاراتها من القدس إلى تل أبيب، بعد أن ضمت إسرائيل القدس بشكلٍ كاملٍ عام 1980. ومنذ ذلك التاريخ، لم تتخذ أي دولة في العالم من القدس مقرًا لسفارتها لدى إسرائيل باستثناء خمسة بلدان، أولها كوستاريكا عام 1982، وعدلت عن قرارها في منتصف أغسطس عام 2006، والسلفادور عام 1984، وعدلت عن قرارها في نهاية أغسطس 2006، ثم الولاياتالمتحدة في منتصف مايو هذا العام، تبعتها جواتيمالا، ثم باراجواي في نهاية مايو الماضي، قبل أن تعدل الأخيرة عن ذلك القرار في السادس من سبتمبر الجاري، مع تولي الرئيس الجديد ماريو عبده بينتيز مقاليد الحكم، وهو من أصول لبنانية. وبسبب ضعف حجتها أمام محكمة العدل الدولية، أعلنت أمريكا عن انسحابها من الاتفاقية الدولية لمحكمة العدل الدولية، ومقرها لاهاي في هولندا، التي هي ساحة الأممالمتحدة لحل النزاعات بين الدول. ومنذ تولى منصبه قبل ما يقرب من عامين، انسحب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتفاق النووي المبرم بين ست قوى عالمية وإيران، ومن اتفاق عالمي للمناخ، ومن منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو). حصانة لمجرمي الحرب! من مفارقات عصر “القوة العظمى الوحيدة ” في عالم اليوم، أن حكومة الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تعد تجد غضاضة أو عيبًا في طلب “وضع قانوني خاص” لجنودها، بل وتتبجح بأن قرارات رئيسها لها الأولوية في التطبيق على أي قرارات دولية أخرى، حتى لو كانت اتفاقية جنيف بشأن التعذيب، بل لقد وصل الأمر لحد أنهم سنّوا قرارات خاصة بهم في العراق وأفغانستان تعفي جنود “العم سام” من المحاكمة في حالة قيامهم بجرائم قتل أو تعذيب أو خلافه ضد العراقيين أو الأفغان أو العرب عموما. والأغرب أنهم كانوا حتى وقت قريب يحاولون التستر من عورات التعذيب وجرائم جنودهم، بمحاولة الحصول على قرار دولي من مجلس الأمن يصبغ الشرعية على جرائم جنودهم هناك، ونجحوا في الحصول على قرار يعطي الحصانة للجنود الأمريكيين، من يوليه 2002 حتى 2004، ولكن عندما فشلوا في مد هذا القرار في مجلس الأمن مرة أخرى (بسبب جرائمهم في أبو غريب وجوانتاناموا وغيرها) لم يعيروا الأمر اهتمامًا، وقرروا هم إصدار قرارات أمريكية خاصة تعفي جنودهم من الملاحقة (كما فعل بريمر في العراق)، وكأن جنودهم يستعصون على المحاكمة، ولا يجدون من يجرؤ على محاكمتهم!. ورُفعت في الأول من يوليو الجاري 2004، الحصانة التي سبق أن أعطاها مجلس الأمن لجنود الولاياتالمتحدةالأمريكية مرتين متتالين من يوليو 2002 إلى 2003، ثم من يوليو 2003 إلى 2004، وذلك بعدما رفض المجلس تجديد هذه الحصانة التي طالب بها الأمريكان عقب تدشين معاهدة المحكمة الجنائية الدولية في يوليو 2002 خشية مطالبة هيئات أو مجموعات حقوقية المطالبة بمحاكمتهم عن جرائم حرب ارتكبوها في الصومال أو العراق أو غيرها. وتزامن هذا الحدث مع حدثين آخرين مهمين: (الأول) أن بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق حرص على أن يكون آخر قرار يصدره قبل مغادرة العراق هو إعطاء “حصانة ” لجنود الاحتلال الأجانب في العراق من المحاكمة أمام أي محاكم عراقية، و(الثاني) أن أمريكا أعلنت رسميا أنها بصدد سحب قواتها العاملة تحت لافتة قوات حفظ السلام في عدة دول مثل البوسنة وإريتريا وإثيوبيا، طالما أن الأممالمتحدة ترفض إعطاء جنودها حصانة. ووصل الأمر بالرئيس الأسبق بوش لحد القول: إنه “من حقي تجاهل اتفاقيات جنيف!”، ونشر البيت الأبيض مئات من الصفحات لوثائق زعم فيها الرئيس الأمريكي جورج بوش أن لديه الحق- وفقا لدستور بلاده- في عدم الالتزام بالقوانين والمعاهدات التي تناهض التعذيب. وجاء في إحدى الوثائق التي نُشرت يوم 22-6-2004، وكانت قد صدرت من وزارة العدل الأمريكية عام 2002- وجرى إخفاؤها- أن أوامر الرئيس الأمريكي وفقا للدستور تتقدم على القوانين والمعاهدات الدولية المناهضة للتعذيب، وبالتالي تبرر هذه الوثيقة استخدام وسائل التعذيب بحق المعتقلين!. والطريف والمحزن أنهم سعوا، العام الماضي، لرشوة دول عديدة عبر مساعدات مختلفة لضمان توقيع اتفاقيات ثنائية معها تمنع محاكمة الجنود الأمريكان في محاكم جرائم حرب، وعندما رفضت بعض الدول ذلك قاموا بحجب مساعدات عسكرية بقيمة 48 مليون دولار تحصل عليها 35 دولة من أول يوليو 2003 الماضي؛ بدعوى “عدم التزام تلك الدول بمهلة الأول من يوليو للتوقيع على اتفاقيات ثنائية مع واشنطن تضمن حماية الرعايا والجنود الأمريكيين من أي ملاحقة محتملة أمام المحكمة الجنائية الدولية”. فمن يجرؤ على تقديم الأمريكان للمحاكمة لارتكابهم جرائم حرب وتعذيب؟ ومن يجرؤ على محاسبتهم وهم قد انسحبوا من اتفاقيات دولية تلزمهم بالتوقف عن الإضرار بدول أخرى ودعم الاحتلال الصهيوني للقدس؟ وهل ينهار النظام الدولي نتيجة هذه المواقف الأمريكية “الخارجة عن القانون”؟.