تستهجن النفوس الكريمة إدانة المدنيين والسكوت عن العسكر، ويزداد الأمر استهجانا عندما تأتيك من إعلامى يتشدّق بالخدمة العمومية، ويتترّس فى الواقع بقلعة من القلاع العسكرية، فإذا رأيته يناظر مع المظلومين، فذلك لا يتم إلا فى إطار ما يسمح به صاحب المهماز، ومن أغرب ما سمعت اعتبار ما يقع فى رابعة العدوية عصيانا مدنيا، والمعلوم أن العصيان يعدّ كذلك بالنسبة لجهة تُعْصى، فما هذه الجهة التى عُصيت، كى يسوغ أن نعد التظاهر السلمى للاسترداد الشرعية عصيانا؟. الموضوعية تستدعى التساؤل الآتى: لماذا التظاهر السلمى بقى ثابتا على موقفه، على الرغم من حرارة الصيف ورمضان، والترغيب والترهيب المنقطع المثيل؟ الثبات الذى واكبه ثبات الجبال الشامخات للرئيس الشرعى الذى رفض الدنية، ورفض أن تسرق ثورة وإرادة الشعب المصرى، فحوّله هذا الصمود الأسطورى من مسجون إلى ساجن للزمرة الانقلابية، فتهافتت الجهات الدولية والعربية والغربية على زيارته فى قصره "السجن"، ولم يظفر الذى عيّنه السيسى فى سجن "القصر الجمهورى" بعُشر ذلك الاهتمام، بل لم ينبس ببنت شفة أمام تسارع الأحداث، وظلت الاهتمامات منصبة على منفذ الانقلاب، الرئيس الفعلى للبلد، وهو شاهد إثبات الانقلاب على إرادة الشعب. عندما يكون إعلامى مشهور يقلب الحقائق بالامتناع عن المساءلة الموضوعية، فهذا يجعلنا نشكك فى موضوعية التحليل، ومخرجاته السياسية؛ لأنّ الإعلامى غير الشريف يبعد المساءلة الدقيقة فى المسألة السياسية، إما بتزييف الوعى أو صناعة وعى مزيّف أو تشويش على تكوين رؤية موضوعية، أو تذكية الواقع السياسى بمُربكات المشهد، أو تلميع بعض الجهات، وخفض شعبية جهة أخرى، و... ومن ذلك تراه متغافلا عن عصيان العسكر للشرعية، أى إهمال العسكر إرادة المجتمع وفق الآليات الديمقراطية، والميل إلى مناصرة الجيش لمجموعات لا ظهير اجتماعى لها. وضع هذا شأنه له كثيرمن التداعيات السلبية الظاهرة، وهو مما يدركه عامة الناس، فكيف بإعلامى كنا نظن أنّه اشتغل بالإعلام مددا طويلة أكسبته مهارة وقدرة على فهم المعطيات، وإذا بنا نكتشف أنّه شُغل بالإعلام، ليكتب أحيانا حاشية على متون الحاكم الفعلى بأساليب فيها كثير من التمويه الذى يضيّع الفكرة ويقتل الحركة. عصيان العسكر للشرعية الشعبية أسوأ بمراحل ضوئية للعصيان المدنى إن وقع، مع تسليمنا بأن ما يحدث فى مصر، ليس عصيانا مدنيا، فهل يعصى المجتمع نفسه، وهو مصدر الشرعية الانتخابية؟ الذى يعصى هو المخالف لإرادة المجتمع، لهذا نؤكد أن العسكر المائل للقوى الفاشلة سياسيا والتى لا ظهير اجتماعى لها، هو صاحب العصيان، فهناك عصيان عسكر للشرعية، وليس العكس، كما يسوّقه الإعلام البلطجى فى مصر وفى البلاد العربية والغربية. عسكر يناصرون الفاشلين سياسيا، ويستقوى الفاشلون بالعسكر للإجهاز على الفصيل السياسى المؤيّد للشرعية الشعبية والدستورية، ويؤيّد العسكر وأحزاب جنّنتنا بالدستورية والديمقراطية، إلغاء الإرادة الشعبية، ويحبّبون للعسكر فتح المحتشدات وقطع الماء والكهرباء بل الهواء إنْ وجدوا إلى ذلك سبيلا، بل أكثر من ذلك يحرّضون على الكراهية وعلى القتل، و... والعسكر القابل للقيام بهذه المهمّة عسكر فى حالة عصيان للمجتمع، فكيف بعسكر يقود هذه المهمّة؟، والواقع أنّ وزير خارجية السيسى (من حزب الدستور) كان صريحا فى تصريحه لدير شبيجل الألمانية، عندما قال: " لجأنا للجيش للتخلص منه"، يقصد التخلّص من الشرعية، فالحكومة الانقلابية تستقوى بعصيان العسكر للشرعية، فكلاهما غير شرعى بكلّ المعايير الدستورية والقانونية والأخلاقية، لهذا نقول لإخواننا فى رابعة: لا تعيروا بالا لمن رماكم بالعصيان المدنى، لا لأنّكم لستم كذلك فحسب، بل لأنّ البلاطجة من الإعلاميين والسياسيين المسوقين لهذه المعانى يريدون من المجتمع أن ينسى عصيان العسكر للشرعية والإرادة الشعبية، ويشتغل بردّ ترّهات لا معنى لها خارج رءوس منتجيها ومسوقيها. إنّ أهلنا عندنا يرابطون فى رابعة العدوية وغيرها من الميادين، سيدفعون كثيرا الأمراض السياسية والتربوية والحضارية، رأسها أنّ من أهمّ النتائج المباشرة لنجاح عصيان العسكر: 1- انسحاب المجتمع من عملية التغيير السلمى بطريق الآليات الديمقراطية، وفى ذلك خطر كبير على نظرة المجتمع لآليات التغيير السلمى، وتضييع الشراكة السياسية الحقيقية التى تعنى تأطير المجتمع لكلّ شئون حياته، ولو لم يكن من المرابطة فى ميادين الشرف إلاّ الحفاظ على الحراك السياسى ببعده الجماهيرى، الذى يقتضى حضور المجتمع فى تقريره مصيره، لكانت كافية فى الدعوة إلى وجوب الحفاظ عليها، لأنّ الحراك السياسى الحقيقى، هو أن يكون المجتمع بكلّ مكوناته حاضرا فى الاختيار السياسى وتحمّل تبعاته. 2- إذا استؤصل من الفضاء السياسى الشرفاء أو سمحوا بأن يمر الانقلاب بغير دفعه، فستنتج عندنا طبقة سياسية أسوأ من الطبقة السياسية السابقة، لأنّها تهيئة لفضاء تهيمن عليه الطفليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى لا تعيش فى غير الجو الآسن، لهذا تستميت فى الدفاع عنه والموت دونه، كما هو مشاهد هذه الأيام من قِبل المرافعين عن الانقلابيين. 3- الثبات على مسلك السلمية، يمنع تكرار عصيان العسكر للشرعية ومن ثمّ المجتمع، كما يدفع إمكان استقواء الفاشل سياسيا بالعسكر فى قابل الأيام، فتساعدوا الجيش على التحوّل من عسكر يفتّش عن شعب إلى جيش الشعب، وبهذا تقدّمون خدمة رائعة وراقية لمؤسسة الجيش، الذى أراد الفاشلون تحويله إلى جيش يزاول عصيانا عسكريا ضد الشرعية التى انتخبت رئيسا مدنيا. 4- ثبات الشعوب أمام المحن السياسية تزيد من ثقة القيادات السياسية والفكرية فى الطاقات الفردية والجماعية، وتجعلهم يؤسسون برامجهم على القدرات الذاتية للمجتمعات عوض انتظار الصدقات التى قد تأتى وقد لا تأتي، وبهذا فإخواننا فى ميادين العزّة بثباتهم يرسلون رسائل تطمين للقيادة والمجتمع، ويصرحون بحالهم قبل مقالهم: فهمنا ما يراد بنا، فنحن على درب استعادة العسكر للشعب بعودة العسكر عن الانقلاب على الشرعية. 5- ثباتكم السلمى فى ميادين الشرف تطمين للرأى العام العالمى، وتأسيس لمسالك جديدة فى العلاقات الدولية، مفاده أنّ المراهنة الحقيقية فى العلاقات الدولية تكون على القوى التى تملك ظهيرا اجتماعيا قويا، فلا تراهن على جهات تستقوى بالآليات العسكرية فى النزال السياسى، ولا أظن عاقلا على المستوى الإنسانى، يتصوّر حماية مصالحه بقوى لا سند لها غير آلات البطش والتنكيل بالمخالفين. 6- لعلّ من الحسنات الكثيرة لثباتكم أنّكم أسعفتم المترددين فى شأن تحليل الواقع المصرى بعد 25 يناير، سواء كانوا من المصريين أو غيرهم، فقد كنت أناقش المصرى وغيره، فأراهم وقد انطلت عليه حيل التشويه والتشهير، وما زادنى واقع الانقلاب إلاّ تأكيدا لما كنت أقوله، فقد ذكرت فى كثير من الأحيان أنّ الطفليات الإعلامية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والرياضية... لن تسمح بسهولة بتطهير الجو الآسن، ووفق سنن التدافع يفهم هذا الأمر، إذ ليس مستغربا، ولكن المستغرب أن يظهر من كنت تظنّه طاهرا مُطَهِّرا طفيلا بامتياز، فتراه مدافعا عن عصيان العسكر مُدينا لميادين الشرف؛ لأنّها حسب تقديره أو بحسب ما طلب إليه عصيان مدنى، لهذا نقول "يسقط عصيان العسكر للشرعية، ويسقط كلّ نصير له"، وسيعلم الذين أيّدوا الانقلاب أنّ عصيان العسكر للشرعية هو ضرر أكبر بأضعاف مضاعفة من خروج المجتمع للمطالبة بالشرعية. _________________________ مفكر جزائرى