"كل ميسّر لما خلق له"! ويدخل هذا فى معنى الخلق، ما أُعد وهُيئ له. ومن عمق وعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الحكمة، جعل من علامات يوم القيامة، أن يُوسّد (أى يُولّى) الأمر لغير أهله، وهم الذين تهيئوا بحكم جوانب فكرية، فضلا عن خبرة وتعلم وتدريب، لهذا الموقع أو العمل أو المنصب. وإذا كان هناك فريق يصرخ ويندب تخويفا مما يسمى بتديين السياسة وتسييس الدين، فنحن ندعوه إلى ألا يغفل أمرين هما على قدر عال من الخطورة وبؤس المصير، ألا وهما عسكرة السياسة، وتسييس القضاء. وقد كتبنا عدة مرات عن خطورة عسكرة السياسة، كما نراها فى هيمنة العسكر على مقاليد الحكم فى مصر، والتى أنتجت تراجعا لمصر وتقزيما لمكانتها، ونضوبا فى الكثير من مظاهر قوتها الناعمة، ومن هنا فسوف نلفت النظر فقط اليوم إلى صور فشل ذريع اكتوينا بناره منذ أن تسلم العسكر قيادة البلاد، وقت اندلاع ثورة يناير، ومن فرط ثقة الثوار بهم، ذهبوا إلى بيوتهم، وانفرط عقدهم، فكان ما كان من مصائب أحاطت بالثورة طوال هذه الفترة "الانتقامية"، وإذا بالثوار يفيقون بعد فوات الأوان ليجدوا تخبطا هنا وعثرات هناك، فشلا هنا، وجمودا هناك؛ لأن العسكر كما رددنا مرارا، وظيفتهم المتعارف عليها فى كل الدنيا أن يكونوا حراسا للبلاد، وهى مهمة شاقة مقدسة، اكتسبوا بممارستها حبا وتقديرا وإجلالا من الجميع، لكن أن يعنى هذا صكا على بياض يبيح لهم أن ينتقلوا إلى مهمة إدارة البلاد السياسية، فهذا "شذوذ" وخروج عن المنطق والأصول. لقد اكتشفنا بعد فوات الأوان أن العسكر متشبثون بالسلطة، إلى آخر قطرة، بحجة الحرص على مصالح البلاد، فالوطنية ليست حكرا لأحد، وليس صحيحا أنهم صدقوا فى وعدهم بتسليم السلطة، فقد حرصوا على أن يتركوا "إسفينا"، و"خنجرا" فى ظهر من يتولى السلطة بعدهم لتكبيله وعرقلته، وبصريح العبارة "لتفشيله"، حتى يظلوا فى مواقعهم السلطوية، حتى لو من وراء ستار، مما لا بد معه أن تستمر صور الإخفاق والتراجع، وهذا إخلال صريح بواجب الأمانة. لعل من أوضح الأمثلة التى يمكن أن تذكر هنا أن عدم تأهلهم للممارسة السياسية الناضجة، واستسلامهم لمشورة بعض مستشارى السوء ممن فشلوا فى أن يوجدوا لهم موطئ قدم بين الجماهير، ولما رأوا عكس هذا، بالنسبة للإخوان المسلمين، حيث ينجحون دائما فى أية انتخابات، على الرغم مما يواجهونه من حملات ظالمة، وحروب ضارية، إذا بهؤلاء الفاشلين، مستشارى السوء، يُفَصلون هذا الإعلان غير الدستورى الذى يكبل حركة رئيس انتخبته ملايين الشعب، بينما، لا العسكر، ولا مستشاروه، قد حصلوا على أصوات ملايين الناس. وهكذا تجد هؤلاء القوم الرافعين لراية الدولة المدنية، يساندون الدولة العسكرية، التى يستحيل أن توصف بالمدنية، بل إن هناك من يجعل المقابل ل"المدنية" هو "العسكرية"، فيخونون مبدأهم وينقلبون على عقيدتهم السياسية، المهم ألا تظهر الإخوان لاعبا أساسيا على المسرح السياسى، حتى لو ذهبت مصر إلى الفوضى والتخبط والتراجع، على يد العسكر! ويكفى أن نشير إلى أمر واحد هو: كيف لأى عاقل يمكن أن يوافق على أن يقوم العسكر بمهمة التشريع؟ طبعا لن يقوموا بهذا بأنفسهم، وإنما هناك فريق "الترزية"، أو على رأى أحد الظرفاء، حيث قال: إن حرفة الترزية فيها قدر غير منكور من الاحترام، لكن هؤلاء هم "صرماتية القوانين"! لقد كنت واحدا من الذين انخدعوا فى الإدارة السياسية للقيادة العسكرية عقب الثورة لدرجة أن كتبت مقالا سوف أظل نادما عليه طوال ما بقى من عمرى، وسوف أظل أستغفر الله، داعيا أن يسامحنى ويعفو عن هذا المقال السيئ، عند ما كتبت معتذرا للمجلس العسكرى، عن حملة قدتها عام 1986 ضد توغل العسكر فى الحياة المدنية المصرية، مستغلين الكثير مما تتمتع به القوات المسلحة للحصول على امتيازات لا حدود لها، ملايين المصريين محرومون منها، بل قد لا يسمحون لأنفسهم بأن يحلموا بها! وإذا كنا نستنكر عسكرة السياسة، أى أن يقوم العسكر بالحكم والقيادة السياسية، والسيطرة والتوجيه، فإن ما لا يقل خطورة عن هذا هو أن تتسرب الأهواء السياسية إلى أرض القضاء، فكما أن تحريم السياسة على العسكر ناتج عن أنهم –منفردين- يملكون قوة مادية مذهلة تتيح لهم أن يفرضوا ما يرون ويريدون، فتنعدم أبسط قواعد الديمقراطية وحقوق المواطنة، فالأمر كذلك بالنسبة للقضاء، فهم الذين يصدرون الأحكام، واجبة الاحترام والنفاذ، فإذا تسرب هوى سياسى، تصبح الأحكام مشوبة بالشك، وتجنح إلى فريق دون فريق. ولعل أعلى سلطة قضائية فى مصر، قد أحاط بها غبار مؤسف فى الفترة الأخيرة، خاصة ما اتصل بالحكم الذى صدر فى وقت مريب بحل مجلس الشعب، بعد أسابيع قليلة من تقدم طاعنين على المجلس، فى الوقت الذى يحتفظ فيه أرشيف المحكمة بعدد من القضايا الخطيرة "المركونة" منذ سنوات. وحسنا فعل الكاتب المبدع علاء الأسوانى، فى حديثه على قناة الجزيرة مباشر، عند ما لفت نظرنا إلى أن المحكمة الدستورية حكمت من قبل فى العهد البائد ببطلان انتخابات مجلس الشعب، بعد عشرات الشهور، بل ظل المجلس منعقدا، رغم حكم المحكمة بحله أربعة أشهر كاملة، لم يصدر صوت واحد من قضاتها، كما حدث فى الفترة الحالية، منددا، ولما أمر مبارك بإجراء استفتاء على حل المجلس، لم يصدر صوت للقضاة الأجلاء بالاحتجاج، بل قالوا إن لرئيس الدولة أن يمارس سلطته السيادية، وفقا لمتغيرات تقدرها أعمال السيادة!! وعند ما بدأ بعض النواب يتحركون بنية إعداد تشريع خاص بالمحكمة الدستورية، ثار بعض القضاة، ومن حقهم هذا، لكن ألا يعد التسريع بحل المجلس صورة من صور الانتقام والضربة الاستباقية؟ وعند ما يكيل "الزند" إنذاراته المعهودة، بلغته المفتقدة لأبسط قواعد الأدب القضائى، ضد نواب الشعب، ساخرا من الأغلبية، إذا بقرار الحل يصدر بعدها، وكذلك فى المرة الأخيرة عند ما خرج عن أبسط حدود اللياقة فى الحديث عن رئيس الدولة الذى اختارته الملايين، ثم نجد المحكمة تسقط قرار الرئيس بعودة مجلس الشعب، أفلا يكون هذا وذاك مثيرا لغبار الشك؟! أما الأستاذة المستشارة التى حظيت بإعجاب سوزان مبارك، رأس الفساد، كيف تدور ساهرة الليالى متنقلة من فضائية إلى أخرى تصرح بآراء تعلن بها عن موقفها، وكثير منها تعلق بالفعل بما أصدرته المحكمة التى هى عضو فيها، كيف يحدث هذا، ونحن نعلم من سادتنا القضاة أن ليس للقاضى أن يصرح بموقفه من قضية معروضة على المحكمة، قبل تداول الأمر فيها ثم إصدار الحكم؟ لقد غرقنا فى مناقشات بيزنطية باسم القانون، فقيه كبير يقول فى الأمر إنه يجوز لرئيس الدولة كذا ولا يجوز للمحكمة كذا، ويبرز فقيه كبير آخر يقول العكس، وكله باسم القانون، أفلا يفتح هذا الطريق "لعشرات الفئران" أن تتسرب إلى "عبنا" فتجعلنا نتساءل: ومن إذن أدرانا أن الذى حكم بكذا أو كذا من قضايا الحكم والسياسة قد مال إلى جانب وكان يمكن أن يكون له حكم آخر مناقض، خاصة أن المواقف السياسية المسبقة قد فاحت رائحتها عدة مرات؟! مرة أخرى: لا تتهموا غيركم قبل أن تنتبهوا إلى ما يجب عليكم من مراعاة الأصول. العسكر مهمتهم هى حراسة الوطن، وهم جزء من السطلة التنفيذية، يأتمرون بمن يقف على رأسها، والقضاة لا ينبغى أن يصرحوا بما ينمّ عن مواقف سياسية، ولا بد أن يكيلوا بميزان واحد، وينصحوا من يخرج عن حدود أدب الكلام، بأن ما يقوله هو إهانة للقضاة قبل أن يكون إهانة لمن وجه إليه خشن الألفاظ، وسيئ العبارات، فى وقت كال فيه المديح لمنتسب للإعلام أصبح مثارا للسخرية من قبل ملايين الناس، ويعتبره مثلا أعلى، لبئس ما فعل وما قال!