هذه سطورٌ قد سُجِّلَت من قبل بيَّنتُ فيها أهمية هذا الرُّكْن الذى لا غنى عنه لأصحاب الدعوات، ورأيت لشِدَّة حاجتنا إليه هذه الأيام التى نمرُّ بها والكيد يحيط بالدعوة وأصحابها من كل جانب أن أؤكد معانيه؛ لنضعها موضع التنفيذ؛ حتى يُحقِّق الله بنا ما نصبو إليه من تمكين لدين الله الذى يحتاج من الثبات والصبر على المكاره، ونحن على ثقة من نصر الله لدينه ودعوته (فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم: 60). ولذلك نقول: "الثبات معنى عظيم من معانى الدعوة إلى الله، وله آثار كبيرة فى نفس الداعية الثابت وفيمن حوله، تفعل فعلها وتُؤثِّر أثرها، وفيه جوانب مهمة فى تربية الفرد والمجتمع": أولا: الثبات دليل على سلامة المنهج، وداعٍ إلى الثقة به: لكل مسلم نهج ينهجه، وطريق يسلكه ليوصله إلى دار القرار والعز أو الهوان والذل، فإذا اقتنع الداعية بمنهجه وثبت عليه وضحَّى من أجله كان من أهم عوامل التثبيت لمن خلفه والعكس صحيح، ومن هنا تكمن خطورة الثبات؛ لأنه مرآة تعكس مدى اقتناع الفرد بمنهجه وبسلامته وصحته، فليتَّقِ كل داعية الله فى دينه ودعوته ورسالته، ولا يترخَّص فى مواقف لا يجوز فيها التَّرخُّص، بل يجب فيها الثبات وإقرار الحق مهما كانت التضحيات. ثانيًا: الثبات مرآة لشخصية المرء، ومطَمئنٌ لمن حوله: يثق الناس بالثابت الراسخ، ويعظم أثره فيهم؛ حيث يشيع فيهم الطمأنينة إلى حاله والركون إليه، بينما القلق المتقلب قلما يُركن إليه ويوثق به، وهو عامل خوف واضطراب فيمن حوله من الناس. ولعلَّ فى موقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فى محنة خلق القرآن وثباته أكبر دليل على ذلك؛ حيث كان فى ثباته نجاة للأمة كلها من محنة كبيرة لا يعلم أحد مدى ما كان يمكن أن يحدث من جرَّائها، كما فى موقف الإخوان فى محن (1954م، 1965م)، وثباتهم على منهجهم من غير تبديل ولا تغيير أكبر مطمئن للدعاة على مرِّ العصور على سلامة وصحة المنهج والطريق. ثالثًا: الثبات ضريبة الطريق إلى المجد والرِّفْعة فى الدنيا والآخرة: كل عملٍ عظيمٍ يحتاج تحقيقه إلى ثبات وقوة فى التناول والأخذ، وهذا ليس مقتصرًا على المسلمين فقط، بل إن كل شعوب الأرض لا تصل إلى المجد والرفعة والسَّناء إلا بثبات عظيم، ومن اطَّلع على تاريخ الغرب فى زمان الثورة الفرنسية والثورة الصناعية وثورة البخار عَلِم قدر ثباتهم وتضيحاتهم، كما أن تاريخنا الإسلامى زاخر بالكثير من المواقف المضيئة التى تُعَبِّر عن ذلك بوضوح شديد. رابعًا: الثبات طريق لتحقيق الأهداف: فالثبات عامل مُهِم فى الأثر الذى يتركه الإنسان فى هذه الحياة، وهو الموصل –بإذن الله تعالى– إلى ما يريده المرء ويطلبه، فالمريد تغيير حركة التاريخ، والراغب بتعبيد الناس لربِّ العالمين، والعامل إلى رفعة دينه وإعلاء رايته لا غنى له عن الثبات والرُّسوخ، وليس له –بغير الثبات– من مراده ذلك إلا الأوهام والأمانى، وكلما علا الهدف علا الجهد والثبات المطلوبان لتحقيقه. خامسا: الثبات دليل صدقٍ وإخلاص: إن الثبات على دين الله تعالى هو دليل صدق وإخلاص، وإعزاز لراية الله، به تُفْتَح الحصون، وتَسْقُط المدائن، وتُهْزَم جيوش الكفر المتكاثرة، ويتنزَّل نصر الله عز وجل على النفوس المؤمنة، وهذه المواقف من الثبات على الحق تشهد للمؤمنين بقُوَّة الإيمان، ومحبَّة الرحمن؛ لأن المُوَفَّق إلى هذه المواقف الكريمة قليل، وقليل ما هم، وخير الأمثلة الصادقة لترجمة هذه الصفة القيمة السامية هم الصحابة –رضوان الله عليهم جميعًا– بعد القدوة الأسوة محمد صلى الله عليه وسلم، فضلا عن أنبياء الله –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين– ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. إنها القيمة الإيمانية التى لا تستقر فى القلوب وتعيها النفوس إلا إذا رآها الناس أمثلة حيَّة أمامهم، فتُتَرجم إلى واقع عملى متمثل فى مواقف إيمانية يُضحِّى فيها المؤمن بكل ثمينٍ وغالٍ، ويظهر فيها شرف الإيمان ومحبة الرحمن عز وجل وإيثار أمره وشرعه على طبائع النفوس البشرية، ومن أولى بمواقف الثبات من الأنبياء الكرام، وأصحاب النبى -صلى الله عليه وسلم- فلا عجب حين نرى صورًا من الثبات والتَّضحيات متمثلة فيهم، ومُتجسِّدة فى أعمالهم وأقوالهم ومواقفهم؛ لأنهم أصحاب عقيدة ومبادئ وقيم، فمن أراد أن يستعيد مجد الأمة وشرفها وعزَّها وعِزَّتها فى أيامنا هذه فلا بد أن يحذو حذوهم ويسير على طريقهم إيمانًا، وثباتًا، وحبًّا، وتضحية فى سبيل إعلاء العقيدة وتطبيق الشريعة وتعميق الأخلاق؛ لنستعيد مجد خير أمة أُخْرِجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله تعالى. فما أحوجنا اليوم إلى تعميق هذه الصفقة الأخلاقية فى القلوب وتربية الجميع عليها؛ لتحفظ لنا أصالتنا وهويتنا وشخصيتنا الإسلامية فى وقت تواصى أهل الباطل على مَحْوِها وزوالها باستخدام جميع الأسلحة لإبعاد المسلمين عن التمسُّك بدينهم، بسلاح الجدل العقيم وسلاح الشَّهوة تارة أخرى، وسلاح الشبهة تارة ثالثة، فضلا عن سلاح الجدل العقيم والدعاوى الباطلة.. كل ذلك ليُزَعْزِعُوا ثقة المسلمين بدينهم، ولن يقوى على مواجهة ذلك كله إلا القابضون على الجَمْر، الثابتون على الحق الذين يعملون حقيقة التيارات المعادية للإسلام وأساليبها فى التشكيك منه؛ ابتداء من الصهيونية المارقة، وأختها الصليبية الحاقدة، بالإضافة إلى الشيوعية الملحدة، وما تفرع من هذا كله من دعوات زائفة وأفكار هدَّامة وتصوُّرات باطلة تجمعت فيما سُمِّى اليوم ب (العولمة) تبذل جهدها وتنفق مالها وتُضحِّى بكل شىء؛ ليصدوا عن سبيل الله ويبغونها عوجًا، وما هم ببالغيه بإذن الله سبحانه (إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ والَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (الأنفال: 36). من سنن الله تعالى: إن من سنة الله تعالى أن يبقى فى الناس من يثبتون على الحق ويستمسكون به، ويدعون إليه ولو كثر أهل الباطل الذين يمكرون ويمكر الله وهو خير الماكرين، فيتصدَّى لهم حزب الله المفلحون؛ ليكونوا حجة الله على خلقه، وصدق الله: (ومِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وبِهِ يَعْدِلُونَ) (الأعراف: 181)، وفى الحديث: "لا تزال طائفة من أمتى قائمة بأمر الله لا يَضُرُّهم من خَذَلَهُم أو خَالَفَهُم حتى يأتى أمر الله، وهم ظاهرون على الناس"، وظهورهم على الحق يحتاج إلى أمرين: ثبات عليه، وتضحية من أجله، وهذه الطائفة المستمسكة بالحق يحدوهم الأمل الحلو، ويعمر جوانحها الرجاء الباسم، لا يتسرَّب ظلام اليأس إلى صدورهم ولا يعرف له سبيلاً (ومَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إلا الضَّالُّونَ) (الحجر: 56). إنهم كلما ادْلَهَمَّ الباطل من حولهم ازدادوا ثباتًا وإيمانًا لحاجة الناس إلى النور الذى يحملونه، وكلما أمعن الفساد فى الظهور والانتشار امتلئوا يقينًا بضرورة وحتمية السير فى هذا الطريق.. طريق الصلاح والإصلاح، وكلما زحف تيار الكفر الصريح أو المقنع ازدادوا قوة وإصرارًا على مقاومته بكل ما يملكون. ويوم ترى الإنسانية هذا الحق الذى ثبتوا عليه متمثلا فى أمة تُحِبّه وتحرسه وتنشره وتفتديه يومها يهرب الظلام، وينكمش الباطل، ويتراجع الشيطان مخزيًّا بتضحيات الرجال الذين تربُّوا على مائدة الرحمن؛ لأننا أمة مُضحِّية فى سبيل قيمة وعقيدة، ومبدأ وفكرة شعرنا بعظمتها، واعتززنا بالانتساب إليها، ووثقنا فى نصر الله لها؛ فكيف لا نثبت عليها، ولو كلَّفنا ذلك بذل أرواحنا فداها؟! سادسًا : الثبات قيمة أخلاقية: والذى نريد أن نؤكده أن الثبات وهو قيمة أخلاقية تُنَال بالتربية المتأنية، له مذاقٌ حلو، ولن يكون هذا المذاق ولا يتحقق إلا ضمن منظومة القيم الإسلامية التى يعيش لها وبها المسلم، فهو لا ينفصل عنها؛ لأن المسلم صاحب منهج ربَّانى شامل متكامل عقيدةً وخلقًا ونظامًا. ولأهمية الثبات، فإن المولى سبحانه وتعالى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم به، فقال: (فَإمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وعَدْنَاهُمْ فَإنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ) (الزخرف: 41، 42)، فما هو المطلوب يا ربِّ وهذان الاحتمالان متحققان حين يشاء الله؟، قال الله: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِى إلَيْكَ إنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الزخرف: 43)، أثبت يا محمد صلى الله عليه وسلم على ما أنت فيه، وسِرْ فى طريقك لا تحفل بما كان منهم وما سيكون، سِرْ فى طريقك مطمئن القلب (إنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الزخرف: 43).. لا يلتوى بك ولا ينحرف ولا يحيد. إنها العقيدة الثابتة المتَّصلة بحقيقة الكون الكبرى، متناسقة مع الناموس الكلِّى الذى يقوم عليه هذا الوجود، فهى مستقيمة معه لا تنفرج عنه ولا تنفصل، وهى مؤدِّية بصاحبها بالثبات عليها إلى خالق هذا الوجود على استقامة تؤمن معها الرحلة فى ذلك الطريق، والله سبحانه وتعالى يُثَبِّت رسوله -صلى الله عليه وسلم- بتوكيد هذه الحقيقة، وفيها تثبيت كذلك للدعاة من بعده، مهما لاقوا من عنت الشاردين عن الطريق، وبهذا الثبات تُجْنَى الثمرات (وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ ولِقَوْمِكَ وسَوْفَ تُسْأَلُونَ) (الزخرف: 44). بهذا الثبات يُرْفَع ذكرك وذكر قومك، وهذا ما حدث فعلا، فأما الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإن مئات الملايين من الشفاه تُصَلِّى وتُسَلِّم عليه، وتذكره ذكر المحب المشتاق آناء الليل وأطراف النهار منذ قرابة ألف وأربعمائة عام، مئات الملايين من القلوب تخفق بذكره وحبِّه منذ ذلك التاريخ البعيد إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. وأما قومه؛ فقد جاءهم هذا القرآن والدنيا لا تُحسُّ بهم، وإن أحسَّت اعتبرتهم على هامش الحياة، وهو الذى جعل لهم دورهم الأكبر فى تاريخ هذه البشرية، وهو الذى واجهوا به الدنيا فعرفتهم ودانت لهم طوال الفترة التى استمسكوا فيها به وثبتوا على هذه، فلما تخلّوا عنه أنكرتهم الأرض، وضاقت عليهم بما رحبت، واسْتَصْغَرَتْهُم الدُّنيا، وقذفت بهم فى ذيل الأمم، بعد أن كانوا قادة الموكب المرموقين، وإنها لتَبِعَة ضخمة تُسْأَل عنها الأمة التى اختارها الله لدينه، واختارها لقيادة القافلة البشرية الشاردة، إذا هى تخلَّت عن الأمانة (وسَوْفَ تُسْأَلُونَ) (الزخرف: 44)، فلا حُجَّة بعد التذكير، ولا فوز ولا نَصْر ولا عِزَّة ولا مَجْد إلا بالثبات على هذا الطريق. فإذا أردنا مقاومة الباطل والمحافظة على الهوية واستعادة مجدنا وشخصيتنا التى افتقدناها، فما علينا إلا أن نثبت على الطريق الذى سار عليه خير الخلق -صلى الله عليه وسلم- ونثبت على الحقِّ كما ثبت الرِّجال من قبلنا، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ الله لا يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم: 4 -6).